أخيرًا بدأت حركة 'حماس' الإسلامية الفلسطينية تعرف طعم الدواء الذي صنعته بنفسها -- في شكل تفجير انتحاري استهدف بعض أعضائها في قطاع غزة.
فخلال العقدين الماضيين، كانت حركة 'حماس' مسؤولة عن عشرات من الهجمات الانتحارية التي شوهت وقتلت المئات من الإسرائيليين، ولا سيما خلال أحداث الانتفاضة الثانية بين عامي 2000 و2006. وتشتهر حركة 'حماس' بتدبير الهجمات الانتحارية، وتعتبر أنَّ مرتكبيها من "الأبطال" و "الشهداء".
ومن وجهة نظر الحركة، تُعتبر التفجيرات الانتحارية أفعالًا نبيلة عندما يكون منفِّذوها من أعضاء الحركة وضحاياها من اليهود.
ولا تزال تصريحات زعماء حركة 'حماس' والمتحدثين باسمها تدافع عن الهجمات الانتحارية التي تنفذها الحركة، وتعتبر أنَّها "أداة مشروعة للمقاومة" ضد إسرائيل.
تشتهر حركة 'حماس' بتدبير الهجمات الانتحارية، وتعتبر أنَّ مرتكبيها من "الأبطال" و "الشهداء". في الصورة: ملثمون من أعضاء حركة 'حماس' في زي مفجرين انتحاريين في مسيرة مناهضة لإسرائيل نظمتها 'حماس' في 4 حزيران/يونيو 2004 في مخيم رفح للاجئين في قطاع غزة. (مصدر الصورة: Ahmad Khateib/Getty Images) |
غير أنَّ الأحداث الأخيرة تركت مذاقًا مرًا في أفواه زعماء 'حماس'.
ففي 17 آب/أغسطس، قُتل 'نضال الجعفري'، وهو عضو في 'كتائب عز الدين القسَّام'، الجناح العسكري لحركة 'حماس'، عندما فجَّر انتحاري نفسه على خط الحدود بين قطاع غزة ومصر. وتبيَّن أنَّ منفذ العملية الانتحاري هو 'مصطفى كلَّاب'، وهو عضو في مجموعة جهادية تنتسب إلى تنظيم الدولة الإسلامية 'داعش'.
ووفقًا لحركة 'حماس'، فإنَّ 'مصطفى' فجَّر حزامًا ناسفًا كان يرتديه أثناء محاولته العبور من قطاع غزة إلى مصر بصحبة جهادي آخر. وكان القتيل 'نضال الجعفري'، وهو ضابط أمن لدى 'حماس'، يعمل في دورية أمنية حدودية اعترضت الجهاديَيْن وحاولت منعهما من التسلل إلى مصر. وتُعدُّ هذه هي المرة الأولى التي يستهدف فيها تفجير انتحاري أعضاء في حركة 'حماس'.
وقال 'إياد البزم'، أحد المتحدثين باسم حركة 'حماس'، إنَّ الهجوم وقع في الصباح المبكر من يوم 17 آب/أغسطس 2017، حيث لاحظت إحدى الوحدات التابعة لحركة 'حماس' اثنين من المشتبه فيهما يحاولان عبور الحدود من قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. وعندما اقتربت عناصر حركة 'حماس' من المشتبه فيهما، فجَّر 'كلَّاب' حزامه الناسف، الأمر الذي أسفر عن مصرع 'الجعفري'.
وبعد أن تغيَّرت الأوضاع ووجدت 'حماس' نفسها على الجانب الآخر، تبدو الأمور مختلفة بعض الشيء. فقد لجأت حركة 'حماس'، التي لم تعتد على أن تكون هي نفسها هدفًا لهجمات الانتحاريين، إلى استخدام خطاب قوي لإدانة تلك الهجمة الإرهابية ومن خططوا لها. وممَّا يدعو إلى العجب أنَّ 'حماس' نفسها اعتادت التصفيق والتهليل للتفجيرات الانتحارية وغيرها من أشكال العمليات الإرهابية المنفَّذة ضد إسرائيل، بل وتمجيد منفِّذيها.
وندَّد 'فوزي برهوم'، المتحدث باسم حركة 'حماس'، بالتفجير الانتحاري، ووصف منفذ التفجير بأنَّه "خارج على القانون"، وقال إنَّ الحركة ستتعامل بقوة وحزم مع "كل الخارجين عن القانون وعن قيم شعبنا الفلسطيني وأصالته". كما وصف قادة آخرون في حركة 'حماس' منفذ التفجير الانتحاري بأنَّه "منحرف فكريًا".
ومن المثير للاهتمام أنَّ العديد من الفصائل الفلسطينية التي طالما أشادت بهجمات الطعن والدهس، والتفجيرات الانتحارية المنفَّذة ضد إسرائيل، تصف الآن هجوم 17 آب/أغسطس على خط الحدود بين مصر وقطاع غزة بأنَّه "عمل إرهابي وجبان".
وقد أعلن تنظيم الدولة الإسلامية 'داعش' مسؤوليته عن الهجوم. إلا أنَّ إعلان المسؤولية المشار إليه لم يمنع أجهزة التلاعب الفلسطينية من الإشارة بأصابع الاتهام إلى إسرائيل، دون أي دليل على ذلك على الإطلاق.
ويعدُّ هذا اﻻفتراء مثالًا ممتازًا على منهج عمل الفلسطينيين - إبعاد الأنظار عن الحقيقة المزعجة، بأي ثمن.
وفي هذه الحالة، تحاول حركة 'حماس' إبعاد الأنظار عن أنَّ الجهاديين التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية 'داعش' يعملون في قطاع غزة الخاضع لحكم حركة 'حماس' منذ وقت طويل.
وفي الواقع، فإنَّ العديد من الجهاديين في تنظيم 'داعش' كانوا في السابق أعضاء في حركة 'حماس' وتنظيم الجهاد الإسلامي الفلسطيني. ومنذ فترة طويلة، أصبح ظهور الجماعات المتطرفة التي تستلهم تنظيم 'داعش' سرًا يعلمه الجميع. وهذه هي الحقيقة المخجلة التي كانت حركة 'حماس' تعمل جاهدة من أجل إخفائها في السنوات القليلة الماضية.
ومن المفهوم أنَّ وجود أفراد أو جماعات تابعة لتنظيم 'داعش' في قطاع غزة أمر مقلق لحركة 'حماس'، ولا سيما في أعقاب الجهود المستمرة التي تبذلها الحركة لكسب الشرعية والاعتراف من جانب المجتمع الدولي. وفي الأشهر القليلة الماضية، كانت حركة 'حماس' تسعى إلى الظهور بمظهر الحركة "المعتدلة" التي تقبل حل الدولتين.
وفي محاولة لدعم تلك المزاعم، نشرت الحركة مؤخرًا "وثيقة سياسية" ذكرت فيها أنَّ الحركة مستعدة للقبول بقيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967. غير أنَّ الوثيقة لا تذكر ما إذا كان هذا القبول يشمل بأي شكل من الأشكال القبول بحق إسرائيل في الوجود.
وبمعنى آخر، تقول حركة 'حماس' إنَّها ستقبل بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ولكن فقط كنقطة انطلاق لتدمير إسرائيل.
ورغم أنَّ حركة 'حماس' لا تزال في الواقع متمسكة بحلمها المستحيل المتمثل في القضاء على دولة إسرائيل، إلا أنَّ بعض المحللين السياسيين والصحفيين أساؤوا تفسير الوثيقة السياسية التي أصدرتها الحركة واعتبروا أنَّها إشارة إلى "الاعتدال" و "الواقعية" في خطاب الحركة، وزعموا مخطئين أنَّ الحركة مستعدة للدخول في عملية سلام مع إسرائيل.
غير أنَّه ليس هناك ما يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة. فقد كان حديث 'محمود الزهار'، القيادي في حركة 'حماس'، واضحًا وضوح الشمس في كبد السماء وهو ينفي مرارًا وتكرارًا أنَّ الحركة قد تخلت عن أيديولوجيتها وحلمها بتدمير إسرائيل. وقد شدَّد 'الزهار' على أنَّه "لا تغيير في المبادئ"، وأنَّ هدف الحركة الحقيقي كان ولا يزال "تحرير كل فلسطين من البحر (المتوسط) إلى النهر (نهر الأردن)".
وكما يعلم الجميع، فإنَّ التوقيت هو كل شيء - وقد كان توقيت وقوع الهجوم في 17 آب/أغسطس سيئاً بوجه خاص لحركة 'حماس'. فقد كانت الحركة تعمل دون كلل أو ملل لتحسين علاقاتها مع مصر في ضوء ظهور تقارير تشير إلى أنَّ الجهاديين يتسللون من قطاع غزة إلى سيناء للقيام بهجمات ضد الجيش المصري.
والآن ظهرت الحقيقة: فوقوع الهجوم يثبت بوضوح أنَّ الاتهامات المصرية لها أساس.
فقد كان منفذ التفجير 'مصطفى كلَّاب' من بين مجموعة من الجهاديين في طريقها إلى الانضمام إلى تنظيم 'داعش' وغيره من الجماعات الإرهابية الموجودة في شبه جزيرة سيناء والتي أخذت تشن موجة من الهجمات الإرهابية ضد الجيش المصري خلال السنوات القليلة الماضية. وتجدر الإشارة إلى أنَّ حركة 'حماس' كانت دائمًا تنفي وجود تنظيم 'داعش' في قطاع غزة.
كما أن الحركة نفت أيضًا تورُّط جهاديين من قطاع غزة في الهجمات الإرهابية في سيناء. ويبقى الآن أن نرى كيف سيرد المصريون على أكاذيب 'حماس'.
ويكشف هذا الهجوم الانتحاري الذي لم تتوقعه حركة 'حماس'، والذي لم يسبق له مثيل، النقاب عن حقيقة قطاع غزة: مفرخة للجهاديين وغيرهم من الإرهابيين الإسلاميين. أمَّا تنديد حركة 'حماس' بالتفجير الانتحاري واعتبار منفذه "منحرف فكريًا ودينيًا وأخلاقيًا"، فهو أمر يتجاوز حدود السخرية.
ومن ناحية أخرى، قد تستخدم حركة 'حماس' التفجير الانتحاري في محاولة لإقناع المصريين بأنَّها جادة في بذل الجهود من أجل منع الإرهابيين من عبور الحدود من قطاع غزة إلى مصر.
وفي الحقيقة، لا يوجد اختلاف كبير في قطاع غزة بين الأفراد والجماعات ممن يستلهمون تنظيم 'داعش' وأتباع حركة 'حماس'. فالجميع يعمل من أجل نشر التعاليم الإسلامية المتطرفة والدعوة إليها.
ويمكن القول بإنَّ 'مصطفى كلَّاب' وغيره من الجهاديين المنتسبين لتنظيم 'داعش' في قطاع غزة هم أبناء مدرسة حركة 'حماس' التي سمَّمت قلوب وعقول العديد من الفلسطينيين.
وكما يعرف الجميع، فإنَّ حركة 'حماس' لا تعارض التفجيرات الانتحارية من حيث المبدأ. ولكن عندما تنقلب الأحوال، تصبح هذه التفجيرات فجأة أعمالًا "إرهابية جبانة" يرتكبها "خارجون عن القانون" وإرهابيون "منحرفون فكريًا ودينيًا وأخلاقيًا".
وقد تختلف حركة 'حماس' وتنظيم الجهاد الإسلامي الفلسطيني وتنظيم 'داعش' حول العديد من المسائل، غير أنَّ استهداف اليهود و "الكفار" ليس من بينها. فهذه النقطة بالذات محل إجماع بين جميع السفاحين.
'خالد أبو طعمة' صحفي حائز على العديد من الجوائز، يكتب من أورشليم القدس.