في حملة شرسة على وسائل الإعلام فرضت حركة 'حماس' قيدًا جديدًا على عمل الصحفيين في قطاع غزة. وقد سبَّب هذا الإجراء الأخير الذي اتَّخذته حركة 'حماس' قلقًا بالغًا للعديد من الصحفيين الفلسطينيين بشأن قدرتهم على تغطية الأحداث في قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة 'حماس'. وحتى تاريخه، لم تبدُر أيُّ ردود أفعال من الصحفيين الأجانب إزاء هذا الاعتداء الأخير على الحريات العامة.
فما الذي فعلته تحديدًا حركة 'حماس' لإثارة غضب الصحفيين الفلسطينيين؟ في 19 شباط/فبراير من هذا العام، أصدر المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، والخاضع لسيطرة حركة 'حماس'، تعميمًا ذكر فيه أنَّه لن يُسمح للصحفيين اعتبارًا من 1 نيسان/أبريل 2019 بإجراء مقابلات صحفية أو دخول المباني الحكومية في القطاع إلا إذا حصلوا على "بطاقة صحفية" صادرة عن وزارة الإعلام.
ويعني هذا التعميم الجديد أنَّ أي صحفي لا يحمل "بطاقة صحفية" صادرة عن الحركة لن يتمكَّن من العمل بحرية واستقلالية في قطاع غزة.
وغني عن القول أن حركة 'حماس' لا تعتزم إصدار هذه البطاقات لأي صحفيين لا ينتمون إلى الحركة ولا يعتنقون أيديولوجيتها الإسلامية. وبالإضافة إلى ذلك، لن تصدر الحركة "بطاقات صحفية" لأي صحفيين يجرؤون على انتقاد حكم الحركة لقطاع غزة أو الإعراب عن رأي يعارضها. والأسوأ من ذلك، منحت حركة 'حماس' لنفسها من خلال فرض هذه البطاقات الحق في تقرير من تعتبره صحفيًّا، ومن تعتبره غير ذلك. ومن الواضح أنَّ رسالة حركة 'حماس' إلى الصحفيين هي "إذا اخترتم ألا تكونوا معنا، ابحثوا عن عمل آخر".
ومن الواضح أيضًا أنَّ هذا الإجراء الجديد يهدف إلى إحكام سيطرة الحركة على المحتوى الذي تنشره وسائل الإعلام. وتسعى الحركة دون شك إلى التأكُّد من أنَّ الصحفيين العاملين في قطاع غزة لن يكتبوا أي تقارير صحفية سوى عن الموضوعات التي تُظهر الحركة وزعماءها بمظهر جيد أمام الفلسطينيين والمجتمع الدولي.
والأمر المحيِّر أنَّ الأخبار والقصص الصحفية التي خرجت من قطاع غزة في الأعوام الأخيرة كانت بالفعل متعاطفة مع الحركة. فمنذ أن لجأت الحركة إلى العنف للسيطرة على قطاع غزة في عام 2007، أحكم زعماؤها وأجهزتها الأمنية بالفعل قبضتهم على وسائل الإعلام المحلية، بهدف التأكُّد من أنَّ الصحفيين الفلسطينيين لا يخرجون عن الإطار الذي وضعته الحركة لهم. وكانت نتيجة ذلك أنَّ معظم الأخبار والقصص الصحفية التي كُتبت من داخل القطاع على مدى الاثني عشر عامًا الماضية تجاهلت إلى حد كبير فشل الحركة في تحسين الظروف المعيشية للمواطنين المقيمين داخل القطاع.
ومن خلال السيطرة على وسائل الإعلام، نجحت حركة 'حماس' في توجيه رسالة إلى العالم فحواها أنَّ إسرائيل ورئيس السلطة الفلسطينية 'محمود عباس' يتحملان وحدهما المسؤولية الكاملة عن الأوضاع البائسة التي يعيشها الفلسطينيون داخل قطاع غزة. أمَّا العدد القليل من الصحفيين الأجانب الذين زاروا القطاع لفترات وجيزة وكتبوا تقارير صحفية لم تُعجب الحركة، فقد قيل لهم بهدوء إنَّ عودتهم إلى ذلك الشريط الساحلي الذي تسيطر عليه حركة 'حماس' غير مرغوب بها. ولا يزال الصحفيون الفلسطينيون الذين تحدُّوا الحركة رغم ذلك التقييد وكتبوا تقارير صحفية عن مسائل حسَّاسة مثل الفساد المالي والإداري في القطاع يعانون من اضطهاد الحركة لهم.
ومن ذلك على سبيل المثال المحنة التي تمر بها الصحفية الاستقصائية 'هاجر حرب' التي تحاكم حاليًا في قطاع غزة بتهمة كشف الفساد المستشري في الوزارات والمؤسسات التي تديرها حركة 'حماس'. وقد استُدعيت 'هاجر'، وهي ناجية من السرطان، مرات عديدة من قبل الأجهزة الأمنية التابعة لحركة 'حماس' لاستجوابها بشأن دورها في إعداد تحقيق صحفي عن الفساد في المؤسسات الطبية ومؤسسات الإسكان في القطاع. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أجَّلت المحكمة قضية 'هاجر' مرة أخرى لجلسة 26 شباط/فبراير. وتواجه 'هاجر' تهمة "عدم توخي الموضوعية والنزاهة والدقَّة" في تقاريرها الصحفية. وبدلًا من تكريم الصحفية الشابة المتفانية لشجاعتها في كتابة تلك التقارير الصحفية، قرَّرت حركة 'حماس' معاقبتها. وبدلًا من أن تستجوب الأجهزة الأمنية التابعة للحركة المسؤولين الفاسدين الذين كشف التقرير الاستقصائي هوياتهم وتلاحقهم قضائيًا، لاحقت 'هاجر' التي تحاكم حاليًا لأنَّها كشفت الحقيقة.
ويصف محامي الصحفية 'بكر التركماني' التهم الموجَّهة لها بأنَّها تهم "واهية". وقال 'بكر' إنَّ هذه التهم "تمس بحرية الرأي والتعبير المكفولة بالقانون"، وأكَّد "أن القانون والعدالة هما سلاح الصحافي ضد الفساد، ولا يجوز استخدامه لتقييد حرية عمله الصحافي وتعبيره عن رأيه".
وتُعدُّ التهمة الموجَّهة للصحفية بعدم توخي الموضوعية والدقة في عملها تهمة مخادعة ومثيرة للسخرية في نفس الوقت. فهي تهمة مخادعة لأنَّ مصدرها حركة 'حماس' - وهي جماعة تكره الموضوعية والدقة كراهية التحريم. وهي أيضًا مثيرة للسخرية لأنَّها تسمح لحركة 'حماس' بوضع معايير الموضوعية والدقة في العمل الصحفي.
ويحقُّ للمرء أن يتساءل: متى مُنحت حركة 'حماس' الحق في تحديد ماهية "الموضوعية" و"الدقة" لوسائل الإعلام؟ فمن منظور حركة 'حماس'، لا تعني "الموضوعية" في العمل الإعلامي أكثر من أن يمتنع الصحفيون عن انتقاد زعماء الحركة والمسؤولين الحكوميين التابعين لها. أمَّا "الدقة"، فهي في تعريف حركة 'حماس' أن يُظهر الصحفيون العاملون في قطاع غزة إسرائيل والسلطة الفلسطينية في أسوأ مظهر ممكن - بصرف النظر عن الحقائق.
ومرة أخرى نعود للحديث عن البطاقات الصحفية التي تعتزم حركة 'حماس' إصدارها للصحفيين العاملين في قطاع غزة: وهو إجراء ندَّدت به نقابة الصحفيين الفلسطينيين، وهي كيان يسيطر عليه موالون للرئيس الفلسطيني 'محمود عباس'، باعتباره غير قانوني. وشكا 'تحسين الأسطل'، نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين، أنَّ قرار حركة 'حماس' بإصدار تلك البطاقات يُعدُّ "مخالفة صريحة للحق في الوصول للمعلومات ونشرها". ودعا 'الأسطل' جميع الصحفيين إلى مقاطعة أي أخبار تتعلق بحركة 'حماس' احتجاجًا على القرار.
وفي حين أنَّ انتقاد النقابة للإجراء الذي اتَّخذته حركة 'حماس' له ما يبرره تمامًا، تجدر الإشارة أيضًا إلى أنَّ النقابة نادرًا ما تعترض على الانتهاكات التي يتعرَّض لها الصحفيون الفلسطينيون الذين يعيشون في ظل حكم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وبانتقاد إجراءات حركة 'حماس' دون غيرها، تُظهر النقابة بوضوح أنَّها تكيل بمكيالين.
فمنذ بداية هذا العام، اعتقلت قوات الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية 10 صحفيين فلسطينيين بتهمة نشر تقارير صحفية "سلبية" وتوجيه انتقادات مزعومة ضد 'عباس' وغيره من كبار المسؤولين الفلسطينيين. في حين أنَّ إجراءات حركة 'حماس'، في نفس الفترة، اقتصرت على استدعاء 4 صحفيين للتحقيق معهم.
وتتجاهل نقابة الصحفيين الفلسطينيين باستمرار ما يتعرَّض له الصحفيون من اعتقال وانتهاكات من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. ويبدو أنَّ النقابة عاجزة عن رؤية أيِّ شرور في العالم سوى تلك التي يمكن اتِّهام حركة 'حماس' أو إسرائيل بارتكابها. ويرجع ذلك النهج إلى أنَّ رؤساء النقابة وكبار مسؤوليها ينتمون إلى حركة 'فتح' التي يتزعَّمها الرئيس 'عباس'. وهذه النقابة التي تندد بآخر الإجراءات المتَّخذة من جانب حركة 'حماس' هي نفسها التي دعتالمسؤولين والصحفيين الفلسطينيين إلى مقاطعة الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الإسرائيلية.
ومن الواضح أنَّ السلطة الفلسطينية، بمساعدة أنصارها في نقابة الصحفيين الفلسطينيين، تسير على نهج حركة 'حماس' في محاولتها السيطرة على الأخبار والقصص الصحفية بهدف التأكُّد من أنَّ الصحفيين يوجِّهون انتقاداتهم لإسرائيل دون غيرها. ويبدو أنَّ السلطة الفلسطينية حقَّقت نجاحًا نسبيًا، يعادل ما حقَّقته حركة 'حماس' في قطاع غزة، في جهودها الرامية إلى الحدِّ من تدفُّق المعلومات المنشورة عمَّا يحدث في المناطق الخاضعة لسيطرتها. ويجدر بأي صحفي فلسطيني يعيش في رام الله أن يفكِّر عشرات المرات على الأقل قبل أن يستجمع شجاعته ويكتب مقالًا أو يدلي بتصريح يمكن أن يثير غضب 'عباس' أو أحد كبار معاونيه.
ولا شك في أنَّ قرار حركة 'حماس' الأخير الذي يستهدف الصحفيين سيجعل الأمر أكثر صعوبة للصحفيين العاملين في قطاع غزة. ويواجه العديد من هؤلاء الصحفيين بالفعل حملة من الترهيب والتهديدات تشنُّها حركة 'حماس' ضدهم. وسوف يجبر هذا القرار الجديد العديد من الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة على البحث عن مهنة جديدة إذا لم تمنحهم الأجهزة الأمنية التابعة لحركة 'حماس' تلك البطاقات الصحفية، بالنظر إلى أنَّ عدم حصولهم عليها يعني ببساطة فقدان إمكانية الوصول إلى مصادرهم الصحفية.
وقد أصبحت الحملة الشرسة المستمرة التي تقودها السلطة الفلسطينية ضد الصحفيين الفلسطينيين في الضفة الغربية كابوسًا يعيشه جميع الصحفيين هناك، واضطر عدد كبير منهم إلى ممارسة الرقابة الذاتية على ما يكتبونه خوفًا من عقاب 'عباس' وأجهزته الأمنية. ونتيجة لمنع وسائل الإعلام من أداء عملها بحرية واستقلالية في ظل حكم السلطة الفلسطينية، اضطر العديد من الصحفيين الفلسطينيين إلى البحث عن عمل في المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية والغربية والعربية.
ويبقى أن نرى ما إذا كان الصحفيون الأجانب ووسائل الإعلام الغربية ستُعرب عن مخاوفها بشأن هذه الحملات التي تشنُّها السلطة الفلسطينية وحركة 'حماس' لإسكات الصحفيين الفلسطينيين وإرهابهم. وإذا استمر الصحفيون الأجانب في تجاهل الأوضاع الصعبة التي يعيشها زملاؤهم الفلسطينيون، سيأتي قريبًا اليوم الذي يقع فيه هؤلاء الصحفيون الأجانب أنفسهم ضحية لتلك القيود غير المقبولة وغير المهنية التي يفرضها الزعماء الفلسطينيون على الإعلام.
'خالد أبو طعمة' صحفي حائز على العديد من الجوائز، يكتب من أورشليم القدس، ويشغل حاليًا زمالة 'شيلمان' للصحافة في معهد جيتستون.