في العام الماضي، اعترفت إسرائيل بوجود جماعة "الآراميين" المسيحية داخل حدودها؛ وهو فعل لم ولن تُقدم عليه أي دولة عربية أو مسلمة في منطقة الشرق الأوسط فيما مضى أو فيما هو آت. وقد اعترفت إسرائيل بتلك الجماعة باعتبارها جماعة دينية وعرقية متمايزة، تضمُّ السكان الأصليين في منطقة الهلال الخصيب التاريخية.
وكانت لغتهم الآرامية هي اللغة التي تكلَّمها المسيح قبل قرون من قدوم الإسلام إلى المنطقة.
ولا يقتصر الدعم الذي تقدِّمه إسرائيل للمسيحيين وسائر الأقليات - الدروز والمسلمين والبهائيين وغيرهم - على منحهم كامل الحقوق المدنية والحريات والحقوق القانونية التي تمكِّنهم من العيش في سلام وممارسة شعائر دينهم كما يحلو لهم فحسب، وإنما يمتد إلى تطوير تلك الجماعات لنفسها كأقليات، بكل ما ينطوي عليه ذلك من حيث الاختلافات الثقافية. فالتحاق العرب، على سبيل المثال، بقوات جيش الدفاع الإسرائيلي موضع ترحيب، ولكنهم، على عكس اليهود، ليسوا ملزمين بأداء الخدمة العسكرية. فلم يكُن رئيس وزراء إسرائيل المؤسس 'دافيد بن غوريون' يريد أن يشعر العرب أنَّهم مجبرون على محاربة "إخوانهم".
وفي إسرائيل، يشغل أبناء الأقليات المسيحية والمسلمة جميع أنواع المناصب العليا - شأنهم في ذلك شأن أي إسرائيلي يهودي يسعى لمسار مهني ناجح. وهناك قاض مسيحي ماروني في المحكمة العليا، 'سالم جبران'.
وبعكس ما تنشره وسائل الدعاية، ليس هناك "أبارتهايد" من أي نوع، ولا توجد طُرق لا يُسمح لغير اليهود باستخدامها. ولكنَّ تلك الطُرق موجودة في المملكة العربية السعودية، التي تطبِّق الأبارتهايد بالفعل على بعض الطرق، حيث لا يجوز لغير المسلمين السفر إلى مكة.
بل إنَّ إسرائيل تفعل ذلك في منطقة يرغب فيها معظم جيرانها - وهم غالبًا من أكثر أعداء الإنسانية وحشية - في محوها من على الخريطة، وغالبًا ما يبذلون قصارى جهدهم من أجل تحقيق ذلك الحلم. ومن المحزن أنَّ العديد من الأوروبيين يشاركون في ذلك. وقد شهد الجميع محاولات الاتحاد الأوروبي الشرسة مؤخرًا لإزهاق روح إسرائيل اقتصاديًا عن طريق وضع علامة على السلع المصنوعة في الأراضي المتنازع عليها. وفي الواقع، فإنَّ هذا المطلب، الذي لم تُواجه به أي دولة أخرى طرف في نزاع حدودي، يعوق أي فرص للسلام الذي يمكن للعمل سويًا أن يؤدي إليه.
إنَّ هؤلاء الأوروبيين لا يخدعون أحدًا. إنَّ ما يسعون لفرضه على إسرائيل من "عقوبات" خبيثة سادية في طابعها وقائمة على ادعاء زائف بالاستقامة لن تؤدي سوى إلى طرد آلاف الفلسطينيين من وظائف ذات أجر جيد يحتاجون إليها أشد الاحتياج، والدفع بالعديد من الفلسطينيين المتعطلين عن العمل حديثًا إلى آخر أمل لهم في العمل: التطرف الإسلامي والإرهاب. ومن المفارقات أنَّ هؤلاء الأوروبيين، في سعيهم إلى إرضاء رغبتهم في إيذاء اليهود عن طريق التظاهر بمساعدة الفلسطينيين، يضعون في الواقع بذورًا ستطرح جيلًا جديدًا من الإرهابيين الذين سينتقلون إلى أوروبا لاحقًا ليُظهروا لهؤلاء الأوروبيين حقيقة رأيهم في مثل هذا النفاق.
هناك نقاش واسع النطاق في المنطقة حول سعي الأوروبيين سرًا إلى القضاء على إسرائيل، وأنَّهم يأملون في أنَّ قوانينهم الجديدة، جنبًا إلى جنب مع العنف العربي القديم، سوف تنجح في ذلك. وبهذه الطريقة، يصبح بإمكان الأوروبيين أن يتظاهروا بأنهمَّ "لا علاقة لهم بما حدث". إنَّ هؤلاء الأوروبيين بحاجة إلى أن يعرفوا أنَّهم لا يخدعون أحدًا.
وفي الوقت نفسه، ورغم أنَّ إسرائيل مضطرة إلى التصدي لما تواجهه على الجبهتين الأوروبية والأمريكية، فضلًا عن التصدي للتهديدات الإسلامية الرامية للإبادة الجماعية، فإنَّها تواصل العمل بنشاط على تعزيز طوائف الأقليات، عن طريق مجموعة متنوعة من البرامج التي ترعاها الدولة. ومن بين تلك البرامج خطة خمسية لتطوير العرب الإسرائيليين وغيرهم من طوائف الأقليات، اعتمدتها الحكومة في 30 كانون الأول/ديسمبر 2015 بتكلفة قدرها 15 مليار شيكل [4 مليارات دولار تقريبًا]. وتتولى وزيرة المساواة الاجتماعية 'جيلا غامليل' (Gila Gamliel)، وهي من حزب الليكود، مسؤولية تنفيذ هذه الخطة. وقد كان رئيس الوزراء 'نتنياهو'، الذي يتعرض للشيطنة ظلمًا، مسؤولًا على مدى السنوات العديدة الماضية عن عمل "سلطة التطوير الاقتصادي للوسط العربي – الدرزي – الشركسي". وهي سلطة يرأسها 'أيمن سيف'، وهو عربي مسلم، يتحكم في ميزانية كبيرة قدرها 7 مليارات شيكل [1.8 مليار دولار تقريبًا]، ذهب معظمها إلى مدن وقرى عربية مختلفة من أجل إنشاء بنية تحتية حديثة، ومناطق صناعية، وإيجاد فرص العمل والتعليم، وغير ذلك من العناصر. وخُصِّص الباقي لمساعدة القرى المسيحية في الجليل.
ولدى العرب قسم خاص في وزارة التعليم يرأسه 'عبد الله الخطيب'، وهو أيضًا عربي مسلم، ومسؤول كذلك عن ميزانية كبيرة قدرها 900 مليون شيكل [230 مليون دولار].
ويفهم المسيحيون وجميع الأقليات الأخرى في إسرائيل اليوم أنَّ الخدمة في الجيش الإسرائيلي أمر ضروري لاندماجهم في المجتمع الإسرائيلي. فالعديد من المسيحيين وغيرهم من أبناء الأقليات في إسرائيل تنتابهم المخاوف نفسها: فهم يفهمون جيدًا أنَّ إسرائيل هي جزيرة الأمان الوحيدة التي توفر لهم الحرية وتمنحهم الحقوق الديمقراطية. كما أنَّ أبناء الأقلية العربية المسلمة في إسرائيل، فضلًا عن أبناء الأقلية المسيحية وغيرها من الطوائف الناطقة باللغة العربية، يرون المصير المأساوي الذي انتهى إليه إخوتهم في سوريا والعراق ولبنان وغيرها من الدول العربية. فالمسلمون يقتلون غيرهم من المسلمين؛ والجماعات الإسلامية المتطرفة تقتل المسيحيين، وتنتزعهم من أرضهم، وتقطع رقابهم، وتحرقهم على قيد الحياة، وتغرقهم في أقفاص، وبالطبع، تصلبهم. ولا ينجو من ذلك المصير حتى الأطفال الصغار. وتدرك الأقليات القاطنة في إسرائيل ذلك جيدًا. كما لا يمكنهم فهم لماذا لا يُصوَّر هؤلاء الأوغاد على أنَّهم قتلة متوحشون. ويخشون أن ينتشر هذا الدمار، إلى الأراضي المقدسة في إسرائيل أولًا، ومن ثمَّ، إلى أوروبا.
وهذا الخوف أحد أسباب تزايد أعداد المسيحيين المتقدمين للخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي: إذ أنَّ 30% منهم يلتحقون الآن بصفوف جيش الدفاع على أساس طوعي؛ بينما يلتحق 57% من أبناء المجتمع اليهودي بوجه عام بالخدمة، على أساس إلزامي. واليوم، هناك أكثر من 1,000 عربي مسلم يخدمون في جيش الدفاع الإسرائيلي.
ونحن نعلم جميعًا خطورة هذه الجماعات الجهادية الإسلامية المتطرفة، مثل حركة 'حماس'، ونشعر بأنَّنا ملزمون أكثر من أي وقت مضى بحماية إسرائيل، الدولة التعددية الوحيدة في المنطقة.
وجماعة المسيحيين الآراميين، التي ينتمي إليها كاتب هذه السطور، هي جماعة آرامية - فينيقية من حيث أصولها العرقية واللغوية، ظهرت في الأصل في مناطق مختلفة في سوريا ولبنان والعراق. وعلى مر 1,400 سنة من الفتح الإسلامي، أُجبر المسيحيون الآراميون على التحدث باللغة العربية، ومؤخرًا، على الفرار من موطنهم في سوريا والعراق. ولا يتمتع المسيحيون الآراميون بأي صفة في الدول العربية والإسلامية، التي تحكم الشريعة الإسلامية معظمها. كما لا يتمتعون بأي صفة في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية، التي تحكم الآن منطقة يهودا والسامرة.
ونحن نعلم أنَّ بعض الجماعات المسيحية، مثل 'سبيل' و'كايروس فلسطين' وغيرها، تعيش تحت رحمة السلطة الفلسطينية، ولا تزال تشعر بالحاجة إلى تملُّق السادة الفاتحين من العرب المسلمين خوفًا منهم.
أمَّا القدس، فهي مفتوحة أمام الجميع. ولكن ذلك لم يكن الحال دائمًا، ولا سيما عندما كانت القدس خاضعة لسلطة الأردن، حتى عام 1967. فلم تمنع السلطات الأردنية اليهود من دخول المدينة فحسب، بل اقتلعت 38,000 شاهد قبر من مقابر اليهود في جبل الزيتون واستخدمتها كمواد للبناء والأرضيات في المراحيض في الأردن.
ويرفض أعضاء الكنيست من العرب المسلمين حق المسيحيين في الحفاظ على تراثهم الفريد. ففي 5 شباط/فبراير 2014، هدَّدت عضوة الكنيست 'حنين زعبي'، النائبة عن حزب القائمة العربية الموحَّدة، النواب الإسرائيليين المسيحيين الذين مارسوا الضغوط داخل لجنة العمل في الكنيست لصالح قانون ينص على ضمِّ ممثلين مسيحيين إلى لجنة 'المساواة في العمل' في وزارة الاقتصاد. ورفضت 'زعبي' إعلانهم أنَّهم ذوو أصول عِرقية آرامية مسيحية منفصلة. وأصرَّت على إجبارهم على اعتناق هوية عربية وفلسطينية. وكان هذا التعريف كاذبًا بطبيعة الحال، تمامًا كما لو أصرَّ المسيحيون على أن يعتبر العرب المسلمون أنفسهم من السكان الأصليين في أمريكا. وتمَّ تمرير القانون رغم الجهود التي بذلتها 'زعبي' وزملائها، بسبب تحالف من أعضاء الكنيست - أغلبهم من النوَّاب اليهود - صوَّتوا بالموافقة عليه.
ويُظهر هذا الحادث كيف أنَّ بعض العرب المسلمين في إسرائيل يطلبون من جيرانهم اليهود المساعدة في الحفاظ على تراثهم العربي الإسلامي، وفي الوقت ذاته، يرفضون أن تتمتع الأقليات العِرقية الأخرى بنفس الحقوق.
وبدلاً من ذلك، يحاولون فرض الهوية العربية والفلسطينية على تلك الأقليات، تارة بالتهديد، وتارة بالقوة. ففي أيلول/سبتمبر 2014 على سبيل المثال، تعرَّضت امرأة مسيحية آرامية تحمل رتبة نقيب في جيش الدفاع الإسرائيلي للملاحقة من جانب بعض النشطاء المسلمين العرب في الناصرة. وهدَّدها النشطاء بصيحات "الله أكبر"، وفي ذات الليلة، مُزِّقت إطارات سيارتها.
واستيقظ 'إيهاب شلايان' (Ehab Shlayan)، وهو مسيحي آرامي يقطن في الناصرة ويحمل رتبة رائد في جيش الدفاع الإسرائيلي، وهو أيضًا مؤسس منتدى التجنيد المسيحي، في إحدى أيام آب/أغسطس 2015 ليجد علم فلسطين وقد رُفع أثناء الليل في حديقة منزله. وفي عشية عيد الميلاد، 24 كانون الأول/ديسمبر 2014، هجم 30 مسلمًا بالحجارة والزجاجات على جندي مسيحي يُدعى 'مجد رواشدي' وعلى منزله.
الرائد 'إيهاب شلايان' (إلى أقصى اليسار)، وهو مواطن مسيحي آرامي يقطن في الناصرة ويحمل رتبة رائد في جيش الدفاع الإسرائيلي، وهو أيضًا مؤسس "منتدى التجنيد المسيحي" الذي يشجِّع المسيحيين الآراميين في إسرائيل على الخدمة في الجيش. فيما هدَّدت عضوة الكنيست العربية المسلمة 'حنين زعبي' (إلى اليمين) مؤخرًا النواب المسيحيين الإسرائيليين، ورفضت إعلانهم بأنَّهم ذوو أصول عِرقية مسيحية منفصلة، وأصرَّت على فرض الهوية العربية والفلسطينية عليهم. |
إنَّ هذه هي أعلى درجات النفاق المختلط بالعنصرية.
وقال رئيس الوزراء 'نتانياهو' في تهنئته الرسمية للمسيحيين بأعياد الميلاد في 24 كانون الأول/ديسمبر 2012:
"إنَّ الأقليات في إسرائيل، بما في ذلك ما يزيد على مليون من المواطنين العرب، سوف تتمتع دائمًا بكامل الحقوق المدنية. ولن تقبل حكومة إسرائيل أبدًا بالتمييز ضد المرأة. وسيتمتع السكان المسيحيين في إسرائيل دائماً بالحرية في ممارسة شعائر دينهم. إنَّ هذا هو المكان الوحيد في منطقة الشرق الأوسط الذي يتمتع فيه المسيحيون بكامل الحرية في ممارسة شعائر دينهم. دون أن يخافوا، ودون أن يُضطروا إلى الفرار. وفي وقت يعاني فيه المسيحيون من الحصار في الكثير من الأماكن، في العديد من بلدان الشرق الأوسط، أنا فخور بأنَّه في إسرائيل يتمتع المسيحيون بالحرية في ممارسة شعائر دينهم، وأنَّ هناك طائفة مسيحية مزدهرة في إسرائيل".
ويعيش المسيحيون وغيرهم من الأقليات في إسرائيل عصرًا من الازدهار والنمو، بينما يُعانون بشدَّة من الحركة الإسلامية ومن الاضطهاد في البلدان الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية، حتى يتلاشى أي أثر لهم.
شادي خلول هو مؤسس 'الحركة الآرامية الإسرائيلية'. وقبل تخرجه من جامعة نيفادا في لاس فيغاس، خدم كملازم في لواء المظلات في جيش الدفاع الإسرائيلي. وهو أيضًا رجل أعمال، ومن قادة المجتمع، ومرشح للبرلمان الإسرائيلي.