أثناء تناولي وجبة الإفطار مؤخرًا في الإسكندرية، تجاذبت أطراف الحديث مع 'شريف'، النادل الذي كان يقوم على خدمتي. يبلغ 'شريف' من العمر 25 عامًا؛ تقريبًا نفس عمري عندما غادرت مصر. وقد تخرج مؤخرًا من كلية السياحة والفنادق، وانتهى للتو من أداء خدمته العسكرية، ولا تزال حياته بأكملها أمامه. وقال 'شريف' إنَّه يحلم بأن يصبح طاهيًا، حتى يتمكن من توفير ما يكفي من المال ليتزوج ويشرع في بناء أسرة. وبدا أنَّه على استعداد لأن يعمل بجد من أجل أن يحيا حياة كريمة.
واليوم، يحصل 'شريف' من المطعم الذي يعمل به على 500 جنيه مصري (أقل من 64 دولارًا) شهرياً. وينفق معظم راتبه على أجرة الحافلة التي تقله يوميًا من وإلى واحدة من أفقر مناطق الإسكندرية. ويساعده ما يحصل عليه من البقشيش قليلاً على المضي قدمًا، ولكن في فترات الركود، يضطر 'شريف' إلى اقتراض أجرة الحافلة.
والأمر الذي زاد الطين بلة أنَّ الحي الذي يقطن به 'شريف' أحد معاقل السلفيين (الذين يُعرفون أيضاً باسم الوهابيين)، وهي حركة إسلامية سُنِّية بالغة التشدُّد.
كان إعصار التطرف قد ضرب البلاد، وبدأت عملية "أسلمة" مصر، قبل بضع سنوات من مغادرتي البلاد في عام 1979. وفي أوائل السبعينات من القرن الماضي، كانت الوهابية قد وصلت إلى البلاد، محمولة داخل عقول المصريين الذين كانوا يعيشون ويعملون في المملكة العربية السعودية، وغيرها من دول الخليج العربي.
وفي ذلك اليوم الذي قدَّم لي فيه 'شريف' طعام الإفطار، كنت واحدًا من زبونين اثنين في المطعم. وفي الأسابيع التالية لزيارتي إلى الإسكندرية، وقع عدد من الهجمات ضد السياح. وإذا استمرت الهجمات ضد الأجانب، لن يكون هناك زبائن في المطعم ليخدمهم 'شريف'، وسوف تتلاشى آماله في المستقبل.
وفي حالة 'شريف' وغيره ممن يواجهون الموقف ذاته، قد يبدو أنَّ التطرف هو البديل الوحيد.
وقصة 'شريف' مثال على ما قاله عضو مجلس الشيوخ الأمريكي 'ليندساي جراهام' (Lindsay Graham) "إنَّ الشباب في الشرق الأوسط أقل طائفية" من المتطرفين الذين يحتلون صدارة العناوين في الوقت الراهن. والسبيل لهزيمة الجهاديين المتطرفين هو الاستثمار في الشباب وأسرهم، حتى يتسنى لهم أن يختاروا "حياة مفعمة بالأمل، بدلًا من موت محفوف بالمجد". إنَّ أناساً مثل 'شريف' وأصدقائه هم من يتعين أن نستثمر فيهم.
غير أن الأئمة المتطرفين في مصر قد سبقوا إلى ذلك. فمنذ سنوات مضت وهم يملؤون مساجدهم وموجات الأثير وصفحات الإنترنت برسائل تجعل من المستحيل تقريباً على من يعتنقها أن يعيش في العالم الحديث. ويسافر بعض هؤلاء الأئمة إلى الغرب بانتظام للترويج لأفكارهم، وللتأكد من أنَّ ما يواجهه 'شريف' من مشاكل في الإسكندرية سوف يصل إلى الغرب.
وبالنظر إلى ما يعتنقه مرتكبو أعمال العنف بتشجيع من الأصوات المتشددة البارزة في المجتمع الإسلامي، فلا ينبغي أن يكون تنفيذ الاعتداءات باسم الإسلام أمرًا يبعث على الدهشة.
ففي عام 2014، أكَّدت 'سعاد صالح'، الأستاذة بجامعة الأزهر في القاهرة، أنَّ من حق الرجل المسلم اغتصاب النساء من غير المسلمات في زمن الحرب. وقالت إنَّ الرِق كان موجودًا دائمًا، ولكنَّ ظهور الإسلام أعاد تنظيم هذه المسألة بقصرها على "الحرب المشروعة بين المسلمين وبين أعدائهم". وأوضحت 'صالح' أنَّه في ظل هذه الظروف، فإنَّ اغتصاب النساء من غير المسلمات أمر مقبول. "عشان أذلهم بيصبحوا ملكًا للقائد أو للجيش أو للمسلم، يستمتع بهم كما يستمتع بزوجاته"
ولا يجد الرجال المصريون تشجيعًا على تحقيق رغباتهم الجنسية عن طريق اغتصاب غير المسلمات في سياق الأعمال الحربية فحسب، بل يُحرَّضون أيضًا على نهب خزائن غير المسلمين. ففي أوائل التسعينات من القرن الماضي، شجَّع 'أبو إسحاق الحويني' أتباعه على معالجة الصعوبات المالية التي تواجههم عن طريق الانخراط في الجهاد ضد الغرب. وقال إنَّ الجهاد ترياق ناجع لعلاج الفقر الذي يعاني منه المسلمون في أوطانهم:
"إحنا الفقر اللي إحنا فيه إلا بسبب ترك الجهاد؟ مش كنا لو كل سنة عمالين نغزو مرة ولا اتنين ولا تلاتة، مش كان هايُسلم ناس كثيرون في الأرض؟"
وأضاف 'الحويني': "واللي يرفض هذه الدعوة ويحول بيننا وبين دعوة الناس مش بنقاتله ونغزوه ونأخذ أموالهم وأولادهم ونساؤهم، وكل دي عبارة عن فلوس؟ كل واحد مجاهد كان بيرجع من الجهاد وهو جيبه مليان".
كما تحظى تلك الأفكار الجهادية المعوِّقة بدعم السلفيين في مصر ممن يروجون لخطب 'محمد العريفي'، وهو إمام من المملكة العربية السعودية، تُذاع خطبه في كل من الشرق الأوسط وأوروبا. وفي خطبة الجمعة بالقاهرة في عام 2013 قال 'العريفي' للشباب إنَّه "لا حياة للأمة إلا بالجهاد [...]. والله لن نستطيع أن نرفع الذل عنا إلا بالجهاد. اللهم انصر المجاهدين في سوريا!".
أما 'وجدي غنيم'، وهو شيخ مصري سلفي قريب من جماعة الإخوان المسلمين، فلطالما أشاد بمؤسس جماعة الإخوان المسلمين 'حسن البنا' لأنَّه أوجد ثقافة تقوم على الموت. وللشيخ 'غنيم'، الذي ألقى خطبه في العديد من البلدان بما فيها الولايات المتحدة وانجلترا، وجود نشط على موقعي فيسبوك وتويتر، ويشيد دائمًا بالفلسطينيين لأنَّهم أسياد "صناعة فن الموت".
وبوسع الأئمة أن يبثُّوا الكراهية في مصر بنجاح لسببين. أولاً، أنَّ أكثر من 17 مليون نسمة من إجمالي تعداد السكان البالغ 90 مليون نسمة، يعيشون في فقر. وتعاني مصر من معدل بطالة يقترب من 30 في المائة. وهو ما يتيح لهؤلاء الأئمة جمهورًا جاهزًا. وثانيًا، وعلى الرغم من الفقر الذي تعاني منه البلاد، يمتلك عدد هائل من الشباب المصريين الأدوات التكنولوجية اللازمة للوصول إلى رسائل الكراهية التي يقدمها هؤلاء الأئمة، مثل إمكانية الدخول إلى الإنترنت والهواتف الذكية والقدرة على استخدامها.
وقد واجه الرئيس المصري 'عبد الفتاح السيسي' علماء جامعة الأزهر في القاهرة منذ نحو عام مضى ليقول لهم في خطاب تاريخي إنَّ الوقت قد حان للتصدي للفكر المتطرف الذي وضع المسلمين في حالة حرب مع بقية العالم. وأضاف "إحنا محتاجين ثورة دينية".
ورغم أنَّ 'السيسي' يحمل رغبة عاتية في إحداث ثورة في الدين الإسلامي وفي البلد الذي يقوده، فإنَّ حكومته تفتقر ببساطة إلى الموارد اللازمة لإصلاح النظام التعليمي ليكون قادرًا على مواجهة رسالة الكراهية التي ينشرها الأئمة المتشددون.
ألقى الرئيس المصري 'عبد الفتاح السيسي' خطابًا تاريخيًا أمام لفيف من كبار العلماء ورجال الدين المسلمين في جامعة الأزهر في القاهرة في 28 كانون الأول/ديسمبر 2014. (مصدر الصورة: MEMRI) |
ومع ذلك، تبقى بارقة أمل. فنفس الأجهزة الإلكترونية التي يستخدمها الأئمة لبث الكراهية يمكن أن تُستخدم أيضًا للتصدي لانتشار الفكر الجهادي بين الشباب المصري. والأفضل من ذلك، يمكن للتكنولوجيا المتاحة اليوم أن تزوِّد الجيل القادم بالمهارات اللازمة للمشاركة في قوة العمل العالمية. ويمكن أن تسمح إمكانية الدخول إلى الإنترنت للشباب بتنمية معارفهم، وفي المقابل، بالاندماج في الاقتصاد العالمي.
وقد كان إنشاء مكتبة الإسكندرية يهدف بالضبط إلى ذلك الغرض. فلدى هذه المؤسسة التعليمية التي افتُتحت في عام 2002 أكثر من اثنتي عشرة "سفارة للمعرفة" في جميع أنحاء مصر. وتهدف هذه السفارات إلى زيادة إمكانية وصول المصريين إلى الموارد التعليمية، سواء شخصيًا أو عن طريق الإنترنت.
والمكتبة ذاتها أعجوبة معمارية، ولكن الوصول إليها ليس سهلًا. فالمبنى محاط بجدار لحمايته من هجمات السلفيين المتشددين الذين يرون أنَّ المكتبة تمثل تهديدًا لسلطتهم. ويجب على الزائرين المرور عبر نقطة أمنية لتفتيش متعلقاتهم بحثًا عن أسلحة أو متفجرات قبل السماح لهم بالدخول.
وإذا كنَّا جادين في تحقيق التواصل مع الشباب في مصر، فإنَّ دعم المؤسسات التعليمية مثل مكتبة الإسكندرية هو السبيل الأمثل لمساعدة الشباب مثل 'شريف' على تحقيق أحلامهم في بلدهم الوطن، وإبعاد الجيل القادم عن التحول تجاه التطرف الإسلامي.
مايكل أرمانيوس محلل إخباري يعيش في الولايات المتحدة، وقد وُلد ونشأ في مصر.