تحل في آذار/مارس المقبل الذكرى السنوية الخامسة لما بدأ كفصل آخر في "الربيع العربي"، ليتحول فيما بعد إلى حرب أهلية، استعرت نيرانها إلى أن تحولت إلى كارثة إنسانية، وأخيراً، أدَّت إلى انهيار سوريا الشامل كدولة قومية.
وكان لتسلسل الأحداث تأثير عميق على المنطقة المعروفة باسم "الشرق الأوسط الكبير" بأكملها تقريبًا، مؤثرة على جوانب عديدة في حياة شعوب تلك المنطقة، بما في ذلك الجوانب الديموغرافية، والتكوين العرقي والطائفي، والمسائل الأمنية. ولأنَّ هذا المقال لا يهدف إلى تقديم سرد تاريخي للأحداث، سنكتفي بذكر بعض الجوانب الرئيسية.
فقبل خمس سنوات، عندما خرجت المظاهرة الأولى إلى الشوارع في درعا، في جنوب سوريا، كانت سقف التوقعات مرتفعًا في معظم أنحاء ما يُسمى بـ "العالم العربي" في أعقاب ثورات تونس ومصر وليبيا التي بدا آنذاك أنَّها قد كتبت نهاية عقود من الحكم الاستبدادي من خلال الأجهزة الأمنية والعسكرية. ورغم وجود اختلافات هامة، كانت الدولة السورية في ذلك الوقت تبدو وكأنَّها نموذج مثالي للدولة العربية، بالصورة التي انتهت إليها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومن ثمَّ، لم يكُن من ضروب الخيال الاعتقاد بأنَّ سوريا سوف تستجيب لبوادر السخط الشعبي الأولى بذات الطريقة التي استجابت بها دول مماثلة في أنحاء أخرى في "العالم العربي". وكان أحد الاختلافات الهامة أنَّه في الوقت الذي اندلعت فيه شرارة الانتفاضة، كانت الدولة السورية، التي يمكن القول بأنَّها كانت الأكثر قمعًا في العالم العربي الحديث، إذا استثنينا نظام 'صدام حسين' في العراق، قد شرعت في تنفيذ برنامج إصلاح وتحرر محدود. فقد كان الديكتاتور الجديد 'بشار الأسد' يحاول أن يصوِّر نفسه على أنَّه إصلاحي غربي التعليم، تعجبه التعددية الحزبية واقتصاد السوق. فقد سمح بظهور أول بنوك مملوكة للقطاع الخاص، وخصخص عددًا من الشركات المملوكة للدولة. كما سمح للقطاع الخاص باحتلال موقع القيادة في العديد من القطاعات الجديدة، ولا سيما الهواتف النقالة والإنترنت. وعلى سبيل القطع، كانت البنوك الجديدة والشركات المخصخصة والشركات العاملة في مجالات التكنولوجيا الجديدة جميعها تقريبًا مملوكة لأبناء عشيرة 'الأسد' وحلفائهم، مع حرص الجهاز الأمني-العسكري على مراقبة جميع أنشطتها عن كثب. ومع ذلك، كان هناك بعض التوافق بين مراقبي سوريا في الغرب على أنَّ 'الأسد' الابن يتخذ الخطوات الأولى اللازمة للإصلاح. ومما عزَّز هذا الانطباع أنَّ النظام سمح بظهور عدد من المنظمات غير الحكومية العاملة في عدد من المجالات، بما في ذلك حقوق الإنسان، وإن كان ذلك في ظل مراقبة لصيقة من أجهزة الأمن.
وحاولت القوى الغربية تشجيع ما اعتبرته عملية إصلاح بطيئة عن طريق تقديم مساعدات اقتصادية لنظام 'الأسد'، جاء أغلبها من الاتحاد الأوروبي، واحترام ممثلي النظام السوري على الصعيد الدبلوماسي. ودُعي 'الأسد' للقيام بزيارات خارجية رفيعة المستوى، بما في ذلك إلى بريطانيا وفرنسا، حيث أُعطي مقعدًا في الصف الأمامي في العرض العسكري التقليدي في 14 تموز/يوليه في باريس.
وفي الوقت الذي كان فيه المتظاهرون يتجمعون في درعا، كانت إدارة 'أوباما' تمهِّد الطريق لزيارة 'الأسد' إلى واشنطن، وكان عدد من كبار أعضاء الحزب الديمقراطي الأمريكي يسطرون المقالات في الثناء على الرئيس السوري بوصفه رئيسًا إصلاحيًا ومعتدلًا.
وكان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي آنذاك، السيناتور 'جون كيري' قد وطَّد أواصر علاقة صداقة شخصية مع 'الأسد'، بعد أن التقاه في عدد من الزيارات إلى دمشق، كما جمع بين زوجتيهما رباط من التعاطف.
كما أنَّ العلاقات العاصفة، دون مبالغة، بين 'الأسد' وإدارة 'بوش' شاعدت على تحسين صورة 'الأسد' لدى إدارة الرئيس 'أوباما'، التي وضعت أجندتها للسياسة الخارجية على أساس مناهضة سياسات 'بوش'. (كان 'بوش' قد أجبر 'الأسد' على إنهاء الاحتلال السوري للبنان؛ وردَّ 'الأسد' الصفعة بالسماح للإرهابيين الإسلاميين بالمرور عبر سوريا لقتل الأمريكيين في العراق). ولثلاثة عقود من الزمن، كان 'حافظ الأسد'، الرئيس السوري الراحل ووالد 'بشار'، الزعيم العربي الوحيد الذي اجتمع وجهًا لوجه مع جميع الرؤساء الأمريكيين من 'ريتشارد نيكسون' إلى 'بيل كلينتون'. وكسر الرئيس 'جورج بوش' الابن هذا التقليد بحرمان 'الأسد' من هذا الشرف.
وفي نهاية المطاف، كرَّر نظام 'الأسد' التجربة التي مرَّت بها الغالبية العظمى من الأنظمة السلطوية التي حاولت تطبيق وصفة "الإصلاح الموجَّه".
فأخطر اللحظات التي يمرُّ بها النظام السلطوي تأتي حين يحاول الانفتاح. كما أنَّ الحقيقة الواقعة هي أنَّ الأنظمة السلطوية ليست كلُّها سواء من حيث امتلاكها آليات فعَّالة للإصلاح. ففي بعض الحالات، يكون الاختيار بين سحق مطالب الإصلاح الشعبية، والمخاطرة بتغيير نظام الحكم. وكما يعرف أبناء أمريكا اللاتينية جيدًا، فقد يمكن إصلاح 'الديكتابلاندا' (dictablanda) (الديكتاتورية الناعمة) ولكن يستحيل إصلاح 'الديكتادورا' (dictadura) (الدكتاتورية الخشنة).
وبعد فترة وجيزة سأل فيها 'الأسد' نفسه، تمامًا كما فعل 'هاملت'، أيقتُل أو لا يقتُل، فضَّل 'الأسد' الاختيار الأول، وأرسل دباباته لسحق درعا. وكانت هذه الوصفة قد جُرِّبت في عام 1982 أثناء حكم أبيه، الجنرال 'حافظ الأسد'، في حماة ونجحت، الأمر الذي ضمن استقرار النظام لقرابة ثلاثة عقود من الزمن.
وكان نظام 'الأسد'، شأنه في ذلك شأن سائر الأنظمة العربية التي تواجه انتفاضات شعبية، ضحية، على الأقل جزئيًا، لما حقَّقه من نجاح نسبي.
فقد سمحت عقود من الاستقرار بعد أحداث حماة، وانتهاء حالة الحرب بين سوريا وإسرائيل، من الناحية العملية لا الرسمية، بتشكيل طبقة وسطى حضرية جديدة، وتحقيق نمو كمِّي مثير للإعجاب في المرافق التعليمية، وإحياء قطاعات الاقتصاد التقليدية التي نجت من سيطرة الحكومة المركزية، ولا سيما الزراعة والحرف اليدوية.
وكان سجل 'الأسد' في مجالات مثل محو الأمية، وتحسين الخدمات الصحية بما أدَّى إلى رفع متوسط الأعمار، وزيادة إمكانية الحصول على التعليم العالي، أفضل كثيرًا من متوسط ما حققته 22 دولة عضوًا في جامعة الدول العربية. وخرجت الطبقة الوسطى الحضرية الجديدة إلى الحياة بتطلعات سياسية ذات نمط غربي، لتجد نفسها في مواجهة نظام سياسي من أنظمة العالم الثالث. وتمثَّلت المشكلة في أنَّ هذه الطبقة الوسطى الجديدة، التي تعوزها الخبرة السياسية، إن لم نقل النضج، لم تتمكن من أن تتجاوز مرحلة التعبير عن تطلعاتها بطريقة عشوائية. فلم يكن لديها هيكل سياسي وقيادة تستطيع أن تحوِّل تلك التطلعات إلى استراتيجية لإعادة تشكيل المجتمع السوري جذريًا.
ومن ثمَّ، وعلى ذات منوال الدول الأخرى التي أصابتها عدوى الربيع العربي، ناهيك عن الدول التي اندلعت فيها الثورات الأوروبية في عام 1848، بدأت الانتفاضة السورية تواجه احتمال الهزيمة على يد الدولة السلطوية التي كانت الثورة ترغب في إصلاحها. وأدَّى فشل الثورة في وضع استراتيجية متماسكة إلى فراغ سرعان ما حاولت قوى سياسية أخرى أن تملأه.
وكانت أول تلك القوى جماعة الإخوان المسلمين، أقدم خصوم نظام 'الأسد' وحزب البعث العربي الاشتراكي. وبعد أن اكتفت بدور المتفرج في المراحل الأولى من الثورة، أعادت قيادة الإخوان المسلمين السورية، من منفاها في ألمانيا، تنشيط خلاياها النائمة في سوريا، وبدأت في نشر الشعارات الطائفية: المسلمون السُنَّة ضد الأقلية العلوية التي ينتمي إليها 'الأسد'.
ومن المفارقات أنَّ نظام 'الأسد' شجَّع بطريقة غير مباشرة صعود جماعة الإخوان المسلمين لسببين. السبب الأول أنَّ 'الأسد' كان يأمل في أن تؤدي جرعة الطائفية التي سيبثها الإخوان المسلمون إلى توحيد الأقلية العلوية التي تمثِّل 10% من السكان حول النظام، وإقناع الأقليات الأخرى، ولا سيما المسيحيين الذين يمثلون قرابة 8% من السكان، وطائفتي الشيعة الإسماعيليين والدروز، ويمثلان 2% أخرى من السكان، بأنَّ فرصها أفضل في ظل حكم نظام علماني سلطوي، منها في ظل حكم نظام إسلامي سنِّي متشدد. وبهدف التأكيد على هذه النقطة، أطلق النظام سراح أعداد كبيرة من الإسلاميين السنِّة المتشددين، ومن بينهم العديد من قادة ما سيُعرف لاحقًا بتنظيم دولة الخلافة الإسلامية (داعش). كما حظي الأكراد، ويمثلون 10% من السكان، وإن كان كثير منهم قد سُحبت جنسياتهم السورية في الستينات من القرن الماضي، ببعض اهتمام 'الأسد'، ففي مرسوم رئاسي، وعد 'الأسد' الأكراد باسترداد الجنسية السورية، مُلمحًا إلى تقديم تنازلات كبيرة فيما يتعلق بمسألة تمتع الأقليات العرقية بالحكم الذاتي.
وبتعزيز الجوانب الطائفية في الصراع، كان 'الأسد' يأمل في الفوز بتعاطف الأنظمة الديمقراطية الغربية ودعمها، حيث كانت تلك الأنظمة ولا تزال قلقة من صعود الحركة الإسلامية المتطرفة كتهديد للأمن في بلدانها.
وعن طريق اللعب على ورقة الطائفية، نجح 'الأسد' في كسب المزيد من الدعم من النظام الشيعي في الجمهورية الإسلامية في طهران. ولا يعترف الإسلام الشيعي بالعلويين، المعروفين في أوساط رجال الدين بالنُصيريين، باعتبارهم مسلمين، ناهيك عن اعتبارهم من الشيعة.
ومع ذلك، فإنَّ نظام طهران يعرف جيدًا أنَّ النظام الذي يسيطر عليه النُصيريون في دمشق لا يشكل أي تهديد أيديولوجي/ديني لإيران، على عكس جماعة الإخوان المسلمين، وعقيدة الوحدة الإسلامية التي تنادي بها. فنظام طهران يحتاج إلى أن يكون النظام السوري في دمشق نظامًا صديقًا، لضمان استمرار وصول إيران إلى لبنان، الذي تمثِّل إيران في ساحته السياسية أكبر نفوذ أجنبي، بفضل رعايتها للفرع اللبناني من تنظيم 'حزب الله'.
ورغم تواجدها الكبير في العراق، تحتاج جمهورية إيران الإسلامية إلى سوريا لاستكمال "الهلال الشيعي" الذي تعتبره إيران بمثابة خندق يحميها، وطريق وصول للبحر المتوسط في الوقت نفسه.
وحتى في ذلك الحين، لم يكن الصراع في سوريا قد تحول إلى حرب طائفية، كما أنَّه ليس كذلك اليوم، على الرغم من أنَّنا نجد بداخله حربًا بين الطائفيين. فهناك قوى أخرى مشاركة في هذا الصراع المعقد. ومن بين تلك القوى المنشقون عن حزب البعث، ولا سيما أعضاء التيارات اليسارية التي طالما قُمعت في ظل نظام حكم 'الأسد' الأب. كما أنَّ بقايا الأحزاب الشيوعية السورية على اختلافها لا تزال ناشطة، بالإضافة إلى مجموعات صغيرة وإنما محنَّكة من القوميين العرب (الناصريين).
ونظرًا لأنَّ الجماعات الدينية أو العرقية تكاد تكون جميعًا منقسمة على نفسها، حيث يقاتل بعض أبناء كل جماعة إلى جانب نظام 'بشار الأسد'، في حين يقاتل البعض الآخر ضده، فمن الصعب رسم حدود طائفية فاصلة واضحة. وحتى الأكراد لم ينجوا من الانقسام، حيث يوفِّر أعضاء حزب العمال الكردستاني، من الأكراد الأتراك المنفيين في سوريا منذ عقود، طرفًا يعدل موازين القوى.
ومما زاد من تعقيد المسألة تدخل عدد متزايد من القوى الخارجية، آخرها روسيا.
وقد سبق أن ذكرنا تورط إيران في محاولة حماية النظام السوري الذي لم تنجح أبدًا في إقامة علاقة صداقة حقيقية معه. فمنذ البداية، كان ذلك التحالف مدفوعًا بالضرورة وليس الاختيار، لأنَّ طهران كانت تحتاج لأن تقوم دمشق بتقسيم العالم العربي أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات طوال، على خلفية المنافسة بين 'الأسد' الأب ورئيس العراق آنذاك 'صدام حسين' على قيادة حزب البعث في العالم العربي.
ولم يزُر 'الأسد' الأب طهران سوى مرة واحدة لبضع ساعات، وكان في غاية الحرص على فرض قيود صارمة على الوجود الإيراني في سوريا، وفي ذات الوقت، كان يستفيد من الكرم الإيراني في صورة نفط بأقل من أسعار السوق، ومعونات نقدية، وشحنات من الأسلحة. ولم تسمح سوريا لإيران بإنشاء قنصليات خارج دمشق سوى بعد أن تولى 'بشار الأسد' مقاليد الحكم، وتطور الأمر إلى إنشاء أربعة عشر "مركزًا ثقافيًا" لنشر الإسلام الشيعي. وفي ظل حكم 'بشار الأسد' أيضًا وقَّعت دمشق وطهران اتفاق تعاون دفاعي محدود النطاق إلى حد ما، يتضمن إجراء محادثات مشتركة بين هيئتي الأركان وتبادل المعلومات الاستخباراتية العسكرية.
وعلى الرغم من أنَّ أكثر من مليون إيراني يزورون سوريا سنويًا لزيارة قبر 'السيدة زينب' قُرب دمشق، لم يكن يزور إيران أي سوريين تقريبًا، وظل حجم التبادل التجاري بين البلدين هامشيًا. وفي مقابلة أُجريت مع الجنرال الإيراني 'حسين حمداني' قبل فترة وجيزة من مقتله في المعارك قُرب حلب، روى أنَّ كبار الضباط السوريين قاوموا بشدة التدخل الإيراني في تخطيط العمليات العسكرية، ناهيك عن المشاركة فيها، ضد المتمردين المناوئين 'للأسد'. فقد نشأ جنرالات سوريا نشأة علمانية، وكانوا يحبون الحياة الغربية، ويعتبرون الإيرانيين متعصبين من العصور الوسطى، يتشبثون بأحلام عفا عليها الزمن.
ولكن بحلول عام 2015، صارت إيران المؤيد الرئيسي لنظام 'الأسد'. ويُقدَّر أنَّ إيران أنفقت نحو 12 مليار دولار في مغامرتها في سوريا، بما في ذلك التكفل بدفع مرتبات موظفي الحكومة في المناطق الخاضعة لسيطرة 'الأسد'. ووقت كتابة هذا المقال، كانت إيران قد فقدت أيضًا 143 من كبار الضباط، بدءًا من رتبة نقيب فما أعلى، في ساحات المعارك السورية. وأرسلت إيران الفرع اللبناني من 'حزب الله' للقتال في سوريا، ليلعب دورًا حاسمًا في تحجيم خسائر 'الأسد' من الأراضي، ولا سيما في جنوب سوريا قرب الحدود مع لبنان، والمناطق الجبلية غرب دمشق. وفي أكثر التقديرات تحفظًا، خسر تنظيم 'حزب الله' في لبنان في عامي 2014 و2015 ما يزيد على 800 من عناصره، وهو عدد يفوق خسائر التنظيم في حربه مع إسرائيل في عام 2006 بقرابة الثلث.
وصرَّح المرشد الأعلى 'على خامنئي' علنًا أنَّه لن يسمح بتغيير النظام الحاكم في دمشق؛ وهو الزعيم الأجنبي الوحيد الذي فعل ذلك.
وفي حين تُعدُّ إيران أقوى حلفاء 'الأسد'، برزت تركيا كمصدر الدعم الرئيسي للقوى المناوئة له. كانت تركيا، التي يمرُّ اقتصادها بمرحلة من النمو المستدام، قد استثمرت في العقد الأول من القرن الجديد أكثر من 20 مليار دولار أمريكي في سوريا، لتصبح حلب والمقاطعات المجاورة لها كما لو كانت جزءًا من الظهير الصناعي التركي. وفي حين تُتهم تركيا من ناقديها بأنَّها تُخفي أحلامًا باسترداد المجد العثماني التليد وفرض هيمنتها على الشرق الأوسط، فمن الأرجح أنَّ نظام أنقرة يرى في الوضع السوري المعقَّد فرصة للوصول إلى "حل" لمشكلة اﻻنفصاليين الأكراد-الأتراك الذين يعملون من الأراضي السورية منذ الثمانينات من القرن الماضي.
ولطالما كانت القيادة التركية الإسلامية «الناعمة» على صلة مع الحركة العالمية للإخوان المسلمين، وهي الآن مصممة على ألا ينتهي الموقف في سوريا دون أن يكون لحلفائها رأي ذو شأن في مستقبل تلك البلاد.
وقد دفعت تركيا في تدخلها في سوريا مبالغ تفوق ما دفعته إيران في ذلك الصراع. وبعكس إيران التي لم تسمح بدخول لاجئ سوري واحد، أصبحت تركيا البلد المضيف لأكثر من 2.5 مليون لاجئ سوري، الأمر الذي يمثِّل تحديا إنسانيًا وأمنيًا على المدى الطويل، في وقت تعاني فيه أنقرة من ركود اقتصادي مصحوب بتوتر اجتماعي متصاعد.
وكان قرار أنقرة بدفع أعداد كبيرة من اللاجئين إلى الفرار إلى الاتحاد الأوروبي محاولة من تركيا لإجبار الدول الأكثر ثراء في القارة الأوروبية على تقاسم بعض العبء الذي تتحمله تركيا. وبعد أربع سنوات من الضغط، لم تنجح تركيا في إقناع حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية بتأييد إنشاء "منطقة ملاذ آمن" ومنطقة يُحظر فيها الطيران داخل سوريا بهدف إقناع بعض السوريين على الأقل بالبقاء في بلادهم بدلًا من اللجوء إلى تركيا وغيرها من الدول المجاورة.
ومع ذلك، فقد تكون إيران مخطئة في افتراضها أنَّه أيًا كان ما يحدث في سوريا فإنَّه لن يؤثر على صلب أمنها القومي، على العكس من تركيا التي تواجه تهديدًا مباشرًا. وفي حين أنَّ تنظيم 'داعش' قد توصَّل بالفعل إلى اتفاق ضمني مع إيران بألا تتجاوز قوات 'داعش' خطًا يبعد 40 كيلومترًا عن الحدود الإيرانية-العراقية، وهو ما يُشير إلى رغبة التنظيم في تجنب مواجهة مباشرة مع طهران في هذه المرحلة، فلا توجد أي ضمانة بأنَّ هذا الاتفاق الضمني بضبط النفس سيظل ساريًا في سياق انهيار الدولة في سوريا وأجزاء من العراق.
وقد صرَّحت السلطات الإيرانية علنًا بأنَّ قرابة 80 مجموعة مسلحة تابعة لتنظيم 'داعش' تتواجد في أفغانستان وباكستان بالقرب من الحدود الإيرانية. وقد يكون أمن إيران مهددًا أيضًا بالنظر إلى المشاركة المتزايدة من جانب مختلف الجماعات الكردية والمنفيين السوريين والأتراك والعراقيين والإيرانيين في تلك البلدان في صراع إقليمي أوسع نطاقًا. وقد يضع الدعم الشامل الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى نظام 'الأسد' في سوريا زعماء طهران في مقاعد الخاسرين في حال سقوط النظام في دمشق.
أما روسيا، التي دخلت المعمعة دعمًا للرئيس 'الأسد' أيضًا، فقد تُعيد التفكير في قرارها المتسرع بالتورط في نزاع لا تفهمه تمامًا، وفي بلد تعوزها فيه العلاقات الموثوقة بعد قرابة ربع قرن من سقوط الاتحاد السوفيتي.
ويبدو أنَّ هناك ثلاث وقائع أقنعت الرئيس الروسي 'بوتين' باتخاذ موقف أكثر مرونة من موقفه الحماسي الأول. أمَّا الواقعة الأولى فكانت إسقاط طائرة الركاب الروسية على يد تنظيم 'داعش'، في تذكرة مؤلمة بالخطر الذي يشكِّله الإرهاب العالمي على روسيا شأنها في ذلك شأن سائر البلدان. وكانت الواقعة الثانية إسقاط طائرة مقاتلة روسية بنيران تركية، في تذكرة بأنَّه في حالات الفوضى، مثلما هو الحال في سوريا، لا يوجد ضمان بأنَّ كل شيء سوف يبقى تحت السيطرة طوال الوقت. وكانت الواقعة الثالثة الهجوم الذي قام به حشد مؤيد لتنظيم 'داعش' على قاعدة عسكرية روسية في طاجيكستان، ظاهريًا بهدف الانتقام لمقتل فتاة من السكان المحليين على يد جندي روسي.
ويُقدَّر أنَّ قرابة 20 مليون مسلم يعيشون في روسيا، بما يشمل الملتزمين دينيًا وغيرهم، معظمهم من المسلمين السنَّة ومتعاطفون، على الأقل من الناحية النظرية، مع الأغلبية السنِّية التي تحارب ضد نظام 'الأسد'. ومن الممكن أن يؤدي دعم روسيا القوي لنظام 'الأسد' إلى رد فعل إرهابي لا يستهدف السياح الروس فحسب، كما رأينا في شرم الشيخ، وإنما أهدافًا داخل أراضي الاتحاد الروسي.
أمَّا لبنان، فهو البلد الذي تأثر بأكبر قدر، وربما إلى الأبد، بالصراع السوري. فقد وصل أكثر من 1.8 مليون لاجئ سوري إلى البلاد، ليقلبوا بوصولهم التوازن الديموغرافي الهش في البلاد.
وتسعى الحكومة اللبنانية المؤقتة الحالية التي يتمتع فيها رئيس الوزراء المسلم السُنِّي بسلطات تنفيذية هائلة، إلى منح الجنسية اللبنانية لهؤلاء الوافدين الجدد بأقصى سرعة ممكنة. وفي حال بقاء الوافدين الجدد في لبنان بصورة دائمة، تصبح لبنان عندئذ إضافة جديدة إلى قائمة الدول العربية ذات الأغلبية السنُّية، ولن يمثِّل فيها المسيحيون والشيعة والدروز مجتمعين أكثر من 45 في المائة من السكان.
وتأثَّرت دولة الأردن المجاورة أيضًا إلى حد كبير، ولكن في هذه المرة، لصالح النخبة الأردنية الهاشمية الحاكمة. إذ أنَّ استيعاب نحو 1.2 مليون لاجئ سوري، ينتمي معظمهم إلى طائفة المسلمين السنَّة، وقرابة نصف مليون آخرين من اللاجئين العراقيين من ذات الطائفة، سيؤدي إلى توسيع المزيج السكاني لصالح غير الفلسطينيين، ولا سيما أقليات البدو العرب والشركس والدروز والأتراك والمسيحيين، الذين يمثلون مجتمعين ما لا يزيد عن 35 في المائة من السكان.
وأكثر البلدان تضررًا بصورة مباشرة حتى الآن هو العراق، فقد استولى تنظيم 'داعش' من معقله في مدينة الرقَّة السورية على جزء كبير من أراضيه، بما في ذلك ثالث أكبر مدينة من حيث عدد السكان، الموصل. ويخشى نظام بغداد من أن ينتهي الأمر بالقوى الغربية بقبول تقسيم جديد لمنطقة الشرق الأوسط يتضمن ظهور دولة جديدة ذات أغلبية سنِّية، تتألف من أربع محافظات عراقية وخمس محافظات سورية.
وقد أثار زعيم حزب العمل البريطاني الجديد 'جيرمي كوربين' (Jeremy Corbyn) بالفعل مسألة فتح باب الحوار مع تنظيم 'داعش'، مقترحًا إنشاء قنوات اتصال جانبية مع التنظيم لمناقشة إمكانية عقد مباحثات سلام والتوصل إلى حل وسط. ويمكن أن يكون إنشاء تلك القنوات أول خطوة نحو الاعتراف بدولة سنيِّة جديدة منفصلة.
ومن دواعي قلق العراق أيضًا مستقبل المناطق الكردية التي استردها المقاتلون الأكراد القادمون من تركيا وسوريا والعراق من براثن تنظيم 'داعش'. فهل سيُعيد الأكراد تلك الأراضي إلى سيطرة بغداد بعد استتباب الأمن والهدوء مرة أخرى؟
وعزَّزت فكرة إنشاء دولة سنيَّة جديدة على نهر الفرات فكرة أخرى، ألا وهي إنشاء دولة أخرى للأقليات مثل العلويين والمسيحيين والشيعة الإسماعيليين والدروز تطل على البحر المتوسط وتبدأ من داخل لبنان لتشمل الساحل السوري والمنطقة الجبلية غرب دمشق. وتغطي هذه المنطقة تقريبًا الأراضي السورية التي كان الفرنسيون يسمونها "سوريا المفيدة".
وبإمكان روسيا، وهي دولة أخرى انضمت مؤخرًا إلى حلبة الصراع في سوريا، أن تحصل على المرافق البحرية والجوية التي تسعى إليها في أراضي تلك الدولة الجديدة.
وغني عن القول أنَّ الأكراد، الموزعين على مجتمعات محلية في سوريا وتركيا والعراق وإيران وأرمينيا (الجمهورية السوفيتية السابقة) وأذربيجان قد تأثروا بالصراع السوري بالفعل. فقلما كانت فكرة قيام دولة كردية موحَّدة أكثر حضورًا في أذهان الأكراد في جميع أرجاء المنطقة. إلا أنَّ تحقيق ذلك الحلم لم يبدُ أبعد منالًا اليوم مما كان عليه في أي وقت سابق. فالعديد من الجماعات والأحزاب الكردية منخرطة في صراع مرير على السيطرة على الرواية الكردية والطموح الكردي، إلى درجة تقترب من الصراع المسلح في بعض الأحيان. وإدراكًا للمخاطر التي تنطوي عليها تلك الفكرة، أُجبر الزعيم الكردي العراقي 'مسعود برزاني' على أن يصرف النظر سريعًا عن خطته بإعلان دولة كردية مستقلة في الأقاليم الثلاث التي يسيطر عليها في العراق في ائتلاف مع عدد من الأحزاب الأخرى.
ورغم اتحاد الأكراد في نضالهم ضد تنظيم 'داعش' في مناطقهم، فإنَّهم منقسمون إلى أقصى درجة بشأن الخطوة القادمة؛ ولا يمكن استبعاد قيامهم بتوجيه أسلحتهم - التي وفَّرت الولايات المتحدة جزءًا كبيرًا منها - صوب بعضهم البعض.
كما أنَّ الصراع في سوريا يؤثر على سائر البلدان العربية والإسلامية، جزئيًا بسبب المغناطيس الجهادي الذي أوجده تنظيم 'داعش' والتنظيمات الإسلامية الأخرى مثل 'جبهة النُصرة'. وفي وقت كتابة هذا المقال، كانت الجماعات التي تدَّعي صلة ما بينها وبين تنظيمات جهادية سورية قد نفَّذت أو حاولت تنفيذ عمليات إرهابية في 21 بلدًا ذا أغلبية مسلمة من إندونيسيا إلى بوركينا فاسو، مرورًا بالمملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وليبيا. كما اضطلعت جماعات مماثلة بهجمات أو محاولات في فرنسا وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.
وفي حين أنَّ دول الخليج الغنية بالنفط قد انخرطت في دعم مختلف الجماعات المناهضة لنظام 'الأسد'، فإنَّ تلك الدول بدورها تواجه خطر تكرار تجربتها الكارثية في أفغانستان حينما دعمت الجهاديين في معركتهم ضد الشيوعيين ورعاتهم السوفييت، لينتهي بها الأمر في مواجهة تنظيمي 'طالبان' و'القاعدة'.
وفي الواقع، فقد كان حلم العديد من زعماء التنظيمات الجهادية لأكثر من نصف قرن يتمثل في السيطرة على دولة عربية واحدة غنية بالنفط على الأقل، بما يكفل القدرة على تأمين الموارد المالية اللازمة لاستراتيجيتهم الرامية إلى غزو العالم.
وفي وقت لاحق من هذا الشهر، سوف يُعقد في جنيف مؤتمر دولي جديد بشأن سوريا. ويتضمن جدول أعمال المؤتمر خطة لتقاسم السلطة، ووضع دستور جديد، وإجراء انتخابات عامة تحت إشراف الأمم المتحدة في خلال عامين. وقد وُضعت تلك الخطة في إحدى المؤسسات البحثية في نيويورك في عام 2012، ونقلها إلى 'الأسد' اثنان من السياسيين اللبنانيين البارزين. وقابل 'الأسد' الخطة بالترحيب المشوب بالحذر. كما حظيت الخطة ببعض الدعم من مجلس الأمن القومي في إدارة 'أوباما'. ومع ذلك، وفي اللحظة الأخيرة تقريبًا، استخدم الرئيس 'أوباما' حق النقض ضد الخطة، معلنًا أنَّه على 'الأسد' أن يُغادر سدة الحكم.
وإذا كانت هذه الخطة قد حظيت بفرصة ضئيلة للنجاح في عام 2012، فإنَّ تلك الفرصة غير موجودة الآن. والسبب في ذلك أنَّه لا أحد يسيطر تمامًا على فصيله داخل سوريا، بافتراض أنَّه يمكن العثور على فصائل يسهل التعرف عليها ويمكنها العمل ككيانات منفصلة.
فسوريا لم تكن دولة ذات كيان مستقل وسيادة حتى فترة الانتداب الفرنسي، بل مرَّت بخمسة نماذج مختلفة من الحكم، إلى أن حوَّلها الانتداب إلى دولة فعلية بعد الحرب العالمية الأولى.
وبحلول عام 2011، عندما أشعلت أحداث درعا نيران الانتفاضة الوطنية، كانت سوريا قد أصبحت دولة قومية ذات هوية 'سورية' لم تكن موجودة من قبل. وتجلت هذه الهوية السورية بوضوح فيما تنتجه البلاد من الأدب والسينما والتلفزيون والصحافة، والأهم من ذلك أنَّها تجلت في اللهجة العربية التي تتكلم بها البلاد من أقصاها إلى أقصاها.
ومع انهيار الدولة السورية، التي لا تبسط سيطرتها الضعيفة الآن إلا على قرابة 40 في المائة من الأراضي الوطنية، ومع اشتداد الصراع بنغماته الطائفية التي لا مفر منها، واجهت الهوية السورية ضغوطًا قوية، واعتُبرت العدو الأول في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم 'داعش'. وسوريا اليوم نسيج تكسوه رقع من الإمارات، منها الكبير ومنها الصغير، تتعايش أو تتقاتل أو تجمع بين الأمرين في سياق اقتصاد حرب وتركيز على الهويات المحلية والعرقية والدينية. وقد وضعت العديد من هذه الإمارات نظامًا للتعايش يسمح لها بإدارة المجتمعات الخاضعة لسيطرتها وتوجيهها في اتجاهات مختلفة. وفي معظم الحالات، تكون هذه الاتجاهات صوب ما يُدعى إليه على أنَّه 'إسلام على نهج النبوة'، وإن اختلفت أشكاله. ولكن في حالات قليلة، وهو ما كان مدعاة لدهشة الكثيرين، هناك أيضًا تجارب لتطبيق التعددية والديمقراطية على استحياء.
والتحدي اليوم ليس إنقاذ سوريا لم تعد موجودة إلى حد بعيد باستخدام الألعاب الدبلوماسية، وإنما المساعدة في تأسيس سوريا جديدة. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك من يرغب في مواجهة هذا التحدي، ناهيك عن وجود من هو قادر على مواجهته.
'أمير طاهري' رئيس تحرير جريدة 'كايهان' الإيرانية الرائدة قبل قيام الثورة الإيرانية عام 1979، وهو كاتب بارز يقيم في أوروبا. وهو رئيس معهد 'جيتستون' في أوروبا. وكان قد قدَّم هذه الملاحظات بشأن سوريا في ندوة عن الأمن الإقليمي نظَّمها مركز 'جورج سي مارشال' الأوروبي للدراسات الأمنية في ميونيخ بألمانيا في 25 كانون الثاني/يناير 2016.