يُعَد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيًا في قفصٍ على أيدي تنظيم داعش مثالاً مأساويًا آخر على تطبيق معتنقي أفكار الإخوان المسلمين في مختلف التنظيمات الإرهابية حول العالم لفكرة التكفير (وهو الحكم بخروج شخصٍ ما عن الإسلام وأنه أصبح كافرًا) لإلحاق الأذى بالملايين من المسلمين الأبرياء حول العالم.
إنّ التكفير في مفهوم الإخوان المسلمين بل وفي مفهوم حركات السلفية الجهادية الأكثر تطرفًا يعني أن كل مسلم يُعارض مذهبهم الفِكري، بغضّ النظر عن جنسيته وعرقه ومدرسته العقائدية، هو "كافرٌ" يستحق القتل بوصفه رافضاً للإسلام (مُرتدًا). ولا يعوزنا القول بأن الأمر نفسه ينطبق على أتباع الديانات الأخرى، مثل اليهودية والمسيحية والبوذية وغيرها من الديانات.
ومثل كثير من المسلمين الآخرين فقد سعدت كثيرًا عندما هاجم فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الطيب، مفتي جامعة الأزهر في القاهرة (وهي أهم معهد تعليمي إسلامي سُنِّي في العالم)، في حديثه مؤخراً الإرهابَ الإسلامي.
إنني بوصفي مسلمًا متدينًا أعرف أن الله قد خلقنا لنعيش من أجله لا لنموت. وقد شعرتُ بتعاطف شديد مع الطريقة البطولية التي واجه بها الطيار الأردني حتفه. فقد قضى الطيار الأردني في قفصه بطلاً، وليس كغيره من ضحايا داعش الآخرين المغلوبين على أمرهم الذين ذُبحوا كما تُذبح الشاة. ولا شكّ أن جلاّديه كانوا يتوقعون منه أن يتوسّل إليهم الرحمة، لكنه حرمهم تلك اللذّة متحمَّلاً آخر لحظات معاناته دون أن تبدو عليه علامات الخوف.
ومع ذلك فهناك مؤشرات على وجود تغيُّر تاريخي يجري، ومن شأنه أن يُغيِّر موقف العالم الإسلامي ببطء بعيدًا عن إرهاب الإسلاميين. فقد أعدمت الأردن ردّاً على مقتل طيّارها الانتحارية العراقية ساجدة الريشاوي التي طالب تنظيم داعش بإطلاق سراحها، وزياد الكربولي الإسلامي العراقي الصّادر في حقه حكمٌ سابق بالإعدام. ويقبع أكثر من 100 إرهابي آخر في سجنٍ أردنيٍّ في انتظار تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة في حقهم.
لقد اتضح أن حنق أقرباء الكساسبة بسبب تأخُّر مفاوضات إطلاق سراحه قد جاء في غير محلّه؛ فقد قُتِلَ فور وقوعه في الأسر. وهُم من عشائر البدو، التي تُشتهر بالثأر لمقتل أفرادها وبقائه في الذاكرة. ومع أنهم يُعرفون أيضاً بعدم التنازل عن كرامتهم فقد رضوا بإطلاق سراح ساجدة الريشاوي إن كان ذلك يعني إنقاذ حياة ابنهم. لكن المسؤولين الأمنيين الأردنيين خامرهم الشعور بأنه قد قُتِلَ فعلاً، وطلبوا لذلك دليلاً من تنظيم داعش على أنه ما زال على قيد الحياة قبل أن يطلقوا سراح الريشاوي. ولسوء الحظ فقد كانت شكوكهم في محلّها.
كان تنظيم داعش يهدف من وراء حرق الكساسبة حيًا إلى تصعيد حملته تجاه هدفه التالي، وهو الاستيلاء على الأردن، في إطار خطته الرامية إلى توحيد الإسلاميين في الشرق الأوسط مع الإسلاميين في أفريقيا وتدمير كل ما يعترض طريقه. وينتشر "اللاجئون" العراقيون والسوريون فعلاً وسط خلايا داعش النائمة في سائر أنحاء الأردن. وقد بات من الواضح الآن للمسؤولين الأمنيين الأردنيين أن الإخوان المسلمين في الأردن هم الطابور الخامس لتنظيم داعش، بسبب الروابط الدينية والفكرية بينهما. في غضون ذلك، نشرَ الأردن قواته الجوية والبرية وبدأ باستخدامها في مهاجمة تنظيم داعش في سوريا والعراق انتقامًا لمقتل الكساسبة.
أُجبِرَ الكساسبة قبل أن يُقدِم تنظيم داعش على حرقه حيًا على الظهور في تسجيلٍ مرئي يتهم فيه الحكومة الأردنية بالتعاون مع اليهود الذين يعارضون القاعدة بدلاً من مهاجمة بشار الأسد لقتله المسلمين (وكأنّ تنظيم داعش لا يقتل مسلمين). ومن المفارقات التاريخية الصغيرة أن الفيديو كان قد نُشر في الوقت الذي قرر فيه العاهل الأردني الملك عبدالله إعادة سفير الأردن إلى إسرائيل (وكان قد تم استدعاؤه بعد التوترات الأخيرة المتعلقة بالمسجد الأقصى). وقد أعاد الأردن سفيره إلى إسرائيل بعد أن أدرك الأردنيون أن إسرائيل لم تكن تخطط لتغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى، وأن عدد المسلمين الذين يؤدون شعائرهم الدينية في الأقصى قد زاد دون أي تدخل إسرائيلي.
لقد شاءت الأقدار أن يُقتل عدد من النساء المسلمات في حادث سير أثناء عودتهن من المسجد الأقصى في نفس اليوم الذي تم فيه نشر التسجيل المرئي للطيار. وجدير بالذكر أن ضحايا الحادث، وهنّ جزء من جماعة تقطن في بلدة حورة البدوية الواقعة في لواء الجنوب الإسرائيلي، كانت قد نقلتهنّ إلى القدس جيئةً وذهاباً الحركة الإسلامية في إسرائيل (وهي إحدى الفروع التخريبية لمنظمة الإخوان المسلمين التي لم تُحظَر بعد) في ما يُعدّ استفزازًا واضحًا. وفي مفارقة أخرى، فإن أولئك المسلمات نُقلنَ إلى المستشفيات جوًا بواسطة طيارين من القوات الجوية الإسرائيلية.
تُظهِر استطلاعات الرأي التي أجريت في الضفة الغربية أنه في حال انسحبت قوات الأمن الإسرائيلية من الضفة نتيجة للانتخابات الفلسطينية أو لاتفاقٍ مع إسرائيل، فإن حماس سوف تستولي على السلطة في الضفة فورًا بنفس الطريقة التي استولت بها على السلطة في قطاع غزة.
ولن يمرّ وقت طويل حتى يبدأ إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون على الداخل الإسرائيلي، ثم يجتاح عملاء إرهابيون موالون لداعش أراضي السلطة الفلسطينية عبر الأردن، ويعملون انطلاقًا من هناك على تخريب الأردن وكذلك إسرائيل. وسوف يفعلون تمامًا ما تفعله حماس وغيرها من المنظمات الإسلامية الأخرى حاليًا في شبه جزيرة سيناء ضد مصر.
إذا نجحت موجة من المجاهدين [مجاهدي الحرب الواجبة، الجهاديين] في السيطرة على الضفة الغربية متذرّعين بتنفيذ ما يُسمَّى بـ"حق العودة" وبدأوا في قتلنا بحجة "التكفير" لأننا لا ننتمي إلى فِكرهم الإسلامي الخاص، فستتساقط الصواريخ وقذائف الهاون، وسوف يُعتقل الفلسطينيون المعتدلون ويُحرقون أحياء أو يُذبحون في الضفة الغربية.
إنّ التفكير فيما يمكن أن يحدث كذلك لو أن إسرائيل انسحبت من مرتفعات الجولان في إطار اتفاقية للسلام مع سوريا يُعَد أمراً مروعاً. فسوف يبدو الأمر وكأنه دعوة إلى الدخول موجّهة إما إلى تنظيم داعش أو القوات الإيرانية الموجودة بالفعل على حدود إسرائيل جنوب سوريا.
في مواجهة أعداء خارجيين ترصّ الأردن صفوفها حول ملكها الشجاع لمحاربة تنظيم داعش. فالملك عبدالله الثاني ليس مثل الرئيس الأمريكي باراك أوباما - رئيس أعظم قوة على وجه الأرض اليوم - الذي يخشى محاربة الإرهاب الإسلامي ويخشى إيران بطموحها النووي، حتى لو كان ذلك يشكل تهديدًا لنا جميعًا بما في ذلك الولايات المتحدة.
لأي غرضٍ من وجهة نظر الرئيس أوباما تمتلك إيران صواريخ باليستية عابرة للقارات؟ إن إيران لا تحتاج إلى هذه الصواريخ لضرب إسرائيل أو تنظيم داعش أو البلدان السنية في الشرق الأوسط؛ فبإمكانها أن تقوم بذلك فعلاً دون الحاجة إلى استخدام صواريخ باليستية عابرة للقارات. لكن جلالة الملك عبدالله بن الحسين، ملك إحدى الدول الأصغر في العالم، على استعداد للمحاربة ببسالة لحماية شعبه.
خلافًا لزعماء عرب آخرين ممن يخشون اتخاذ تصرف مُعلَن ضد المنظمات الإرهابية للإسلاميين وآخرين ممّن يموّلونهم، فقد أظهر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الذي ينحدر من نسل النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) زعامةً وشجاعةً حقيقيةً جوًا وبرًا في إيقاف زحف تنظيم داعش وتمَدُّدِه نحو دول عربية أخرى. ويستحق أيضاً أن ينضمّ إلى سجل الخالدين من أبطال الشرق الأوسط الذين قدّموا للعرب وللمسلمين أملاً غير زائف في تغييرٍ تاريخي.
بسَّام الطويل باحثٌ من الشرق الأوسط.