يعتقد أغلب الناس في العالم أنَّ الاحتجاجات الفلسطينية التي اندلعت في 14 و15 أيار/مايو كانت ذات صلة مباشرة بافتتاح سفارة الولايات المتحدة في القدس.
ويبدو أنَّ السبب المباشر وراء هذا الفهم الخاطئ هو وسائل الإعلام الدولية التي ساعدت في إيجاد انطباع بأنَّ الاشتباكات التي وقعت بين الفلسطينيين وقوات جيش الدفاع الإسرائيلي على طول الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة جاءت ردًا على قرار الرئيس الأمريكي 'دونالد ترامب' نقل سفارة الولايات المتحدة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
والحقيقة أنَّ ما شهدناه على مدار الأيام الأخيرة لم يكُن سوى حلقة جديدة في الكفاح الفلسطيني المستمر ضد إسرائيل. وقد بدأ هذا الكفاح مع تأسيس دولة إسرائيل منذ 70 عامًا، ولا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا. وبين الحين والآخر، يجد هذا الكفاح ذريعة جديدة لشن الهجمات الإرهابية ضد إسرائيل وقتل أكبر عدد ممكن من اليهود.
وجدير بالذكر أنَّ الذرائع لمهاجمة إسرائيل تتغيَّر باستمرار على مر التاريخ.
ففي يوم من الأيام، كانت الذريعة هي "انتهاك" زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك 'أرييل شارون' "لحرمة" المسجد الأقصى. ووقع ذلك في أيلول/سبتمبر 2000، واستخدمه الفلسطينيون ذريعة لإشعال نيران الانتفاضة الثانية: موجة ضخمة من التفجيرات الانتحارية وإطلاق الرصاص من السيارات المارة، فضلًا عن أشكال أخرى من العمليات الإرهابية، خلَّفت وراءها الآلاف من الإسرائيليين بين قتيل ومشوَّه. وفي ذلك الوقت، طالب الزعماء الفلسطينيون شعبهم بالنزول إلى الشوارع من أجل الدفاع عن مقدساتهم التي زعموا أنَّ 'شارون' وغيره من اليهود يخططون لتدميرها.
ومنذ نحو ثلاث سنوات، كذب رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله 'محمود عباس' ورفاقه مرة أخرى على الشعب الفلسطيني. وهذه المرة، زعموا أنَّ الزيارات المصرَّح بها من جانب اليهود إلى جبل الهيكل، والذي يعرفه المسلمون باسم الحرم الشريف، تهدف إلى تدمير المسجد الأقصى.
بل ذهب 'عباس' إلى ما هو أبعد من ذلك وتعهَّد بأنَّ الفلسطينيين لن يسمحوا لليهود "بتدنيس مقدساتنا بأقدامهم القذرة". وأشعل خطاب عباس المعروف نيران انتفاضة أخرى، حملت في هذه المرة اسم "انتفاضة السكاكين".
ولم يعد خافيًا على أحد أنَّ الفلسطينيين لم يكونوا قط سعداء بانتخاب الرئيس الأمريكي 'ترامب'. ولم يعد خافيًا أيضًا أنَّ الفلسطينيين لم يكونوا قط سعداء بأنَّ الرئيس 'ترامب' أحاط نفسه بعدد من كبار المستشارين اليهود: ومنهم 'جيسون غرينبلات' (Jason Greenblatt) و'جاريد كوشنر' (Jared Kushner) والسفير 'دافيد فريدمان' (David Friedman).
ومن اللحظة التي تولى فيها الرئيس 'ترامب' مقاليد الحكم، استشعر الفلسطينيون أنَّ الأيام الخوالي في ظل إدارة الرئيس 'باراك أوباما' قد ذهبت بلا عودة. فقد اعتاد الفلسطينيون على أن ينظر البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية إلى إسرائيل إجحافًا على أنَّها الجاني في الجرائم التي يرتكبها الفلسطينيون. ولاحظ الفلسطينيون تغيُّرًا مفزعًا في الخطاب بين إدارتي الرئيسين 'أوباما' و'ترامب'.
وفجأة، وجد الفلسطينيون أنفسهم هدفًا لسهام الانتقاد من الإدارة الأمريكية. وكانت تلك صدمة كبيرة لهم. فعلى مدار ثمانية أعوام في ظل إدارة الرئيس 'أوباما'، صوَّر الفلسطينيون أنفسهم على أنَّهم الطرف المستضعف الأولى بالرعاية، على أنَّهم "الأخيار" في سياق هذا الصراع، وعوملوا على هذا الأساس. أمَّا الآن، وجد الفلسطينيون حكومة أجنبية تحملهم المسؤولية، وتنتقدهم صراحة على قيامهم بأنشطة ظنُّوا أنَّها قد أصبحت حقًا لهم مثل التحريض على الشغب والقتل أو تمويل الإرهابيين والإنفاق على أسرهم. وليس في ذلك ما يعجب الفلسطينيين على الإطلاق.
والحقيقة أنَّ الفلسطينيين لا يكرهون إدارة الرئيس 'ترامب' بسبب قراره بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. بل يكرهونها لأنَّهم يعتقدون أنَّها موالية لإسرائيل. ويكرهونها لأنَّها تفصح بالحقيقة عنهم، وتكشف غدرهم وخبثهم. وأخيرًا، يكرهونها لأنَّهم يعتقدون أنَّها تقف عقبة أمام حلمهم في القضاء على إسرائيل.
هل يعتقد أحد حقًا أنَّ الفلسطينيين الشباب الذين يعيشون في قطاع غزة، ولم يخرجوا قط خارج هذا الشريط الساحلي، يهتمون حقًا ما إذا كانت السفارة الأمريكية في القدس أم في تل أبيب؟ فهؤلاء الشباب لم يزوروا القدس أو الضفة الغربية من قبل في حياتهم؛ وفي أغلب الأحيان، لم يخرجوا قط خارج قطاع غزة.
فلماذا يهتم الشباب الفلسطيني الذي يعيش في قطاع غزة بشأن مسألة نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في الوقت الذي يبدو فيه أنَّ الغالبية العظمى من العرب في القدس والدول العربية لم تهتم بقرار 'ترامب'؟
وأثبت عرب القدس هذا الأسبوع أنَّ مسألة السفارة الأمريكية آخر ما ببالهم، إذ لم ينظموا أي احتجاجات أو حتى إضراب (باستثناء بعض مواطني إسرائيل العرب وبعض الناشطين السياسيين من القدس الشرقية الذين خرجوا في مظاهرة منظَّمة قرب موقع السفارة الأمريكية الجديدة). وبالإضافة إلى ذلك، لم نرَ ملايين العرب والمسلمين ينزلون إلى الشوارع في جحافل غاضبة تهدر برفضها لنقل السفارة إلى القدس.
ولا جدال في أنَّ الفلسطينيين في قطاع غزة خرجوا في مظاهرات على طول خط الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة في 14 أيار/مايو، اليوم الذي افتُتحت فيه السفارة الأميركية في القدس.
بيد أنَّ تلك المظاهرات كانت جزءًا مما يسمى "مسيرة العودة الكبرى"، وهي حملة لمدة ستة أسابيع أطلقتها 'حماس' وعدد من التنظيمات الفلسطينية الأخرى. وقال المنظِّمون أنَّ المسيرة كانت تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: إنفاذ حق العودة للاجئين الفلسطينيين وذريتهم، بحيث يكون من حقهم الانتقال إلى العيش داخل إسرائيل؛ وإحباط خطة 'ترامب' الرامية إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط؛ وجذب انتباه العالم مرة أخرى إلى القضية الفلسطينية.
وقد بدأت مظاهرات "مسيرة العودة الكبرى" في أواخر آذار/مارس، وبلغت ذروتها في 14 أيار/مايو، عشية الاحتفال بالذكرى السنوية السبعين لتأسيس دولة إسرائيل، وهي الذكرى التي يسميها الفلسطينيون "يوم النكبة". أي أنَّ المظاهرات التي اندلعت في يوم افتتاح السفارة الأميركية في القدس كانت في سياق "مسيرة العودة الكبرى"، وليست بهدف الاعتراض على نقل السفارة تحديدًا.
ولم تكُن المظاهرات في ذلك اليوم مختلفة عن تلك التي نظَّمتها 'حماس' وحلفاؤها في قطاع غزة في الأسابيع الماضية. فمرة أخرى في 14 أيار/مايو، حاول آلاف الفلسطينيين اختراق خط الحدود مع إسرائيل، ولكن صدَّتهم القوات الإسرائيلية. ولم يحاول الفلسطينيون اختراق خط الحدود بهدف الاحتجاج على نقل السفارة،
بل كانوا يريدون التسلل إلى إسرائيل لارتكاب الفظائع وقتل اليهود. وتقع القدس على بعد نحو 97 كيلومترًا (62 ميلًا) من حدود غزة، أي أنَّ المتظاهرين كانوا يعرفون جيدًا أنَّهم لن ينجحوا في الوصول إلى تلك المدينة.
وفي الحقيقة، فإنَّ ما وقع على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة عمل عدواني ارتكبته 'حماس' ضد السيادة الإسرائيلية. بل هو عمل من أعمال الحرب. فلم تكُن تلك الأحداث سوى محاولة من جانب تنظيم إرهابي لاستخدام عشرات الآلاف من المدنيين كغطاء للتسلل عبر الحدود. وأظهرت التقارير أنَّ 80% ممَّن قُتلوا في ذلك اليوم كانوا من أعضاء 'حماس'. بل أنَّ 'حماس' نفسها اعترفت بذلك؛ إذ كشف 'صلاح البردويل'، وهو قيادي بارز في 'حماس' والناطق باسمها، في مقابلة تلفزيونية أنَّ 50 قتيلًا من أصل 62 قتيلًا فلسطينيًا سقطوا صرعى برصاص الجنود الإسرائيليين هم أعضاء في حركة حماس.
في الصورة: مجموعة من الشبان من قطاع غزة يسحبون بعيدًا جزءًا من الأسلاك الشائكة التي قُطعت من الجدار الأمني الإسرائيلي في إطار محاولة 'حماس' اختراق الحدود والدخول إلى إسرائيل، 14 أيار/مايو 2018. (مصدر الصورة: لقطة فيديو من إذاعة صوت أمريكا - VOA) |
ولو كانت تلك الاحتجاجات في قطاع غزة بهدف الاعتراض على حفل افتتاح السفارة الأمريكية في القدس، فلماذا حاول 50 عضوًا من حركة 'حماس' التسلل عبر الحدود مع إسرائيل؟ هل كانوا في طريقهم لتنظيم احتجاج سلمي ضد إدارة الرئيس 'ترامب'؟ أم كانوا في طريقهم لتنظيم اعتصام سلمي أمام مكاتب الأمم المتحدة في القدس؟
كلا بالطبع: لقد كان إرهابيو حركة 'حماس' في طريقهم لقتل اليهود. لقد كانوا يريدون التسلل إلى التجمعات السكنية الإسرائيلية الواقعة قرب الحدود مع قطاع غزة. والإرهابيون أنفسهم لم يزعموا أنَّهم كانوا يحتجون على نقل السفارة.
فقد كان الإرهابيون وبقية المتظاهرين الفلسطينيين يهتفون بشعارات "الموت لإسرائيل" و "الموت لأمريكا". وكانوا يرددون هتافهم الواضح بأنَّ هدفهم هو أن تحلَّ محلَّ دولة إسرائيل دولة إسلامية. وكانوا يهتفون ألَّا مكان لليهود في هذه المنطقة. وأطلقوا الهتافات ضد الأمير السعودي 'محمد بن سلمان' الذين يتهمونه بأنَّه يكنُّ وداً مفرطاً لإسرائيل وإدارة الرئيس 'ترامب'.
ويستخدم الفلسطينيون مسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ذريعة أخرى لمواصلة حربهم ضد إسرائيل. ويستخدم 'عباس' وأتباعه مسألة السفارة كذريعة لتصعيد حملتهم الرامية إلى نزع الشرعية عن إسرائيل وشيطنة اليهود. ويتمثَّل هدفهم الحقيقي في عزل إسرائيل في المجتمع الدولي.
فهل يعتقد أحد جديًا أنَّ 'عباس' يهتم ولو للحظة بموقع السفارة الأمريكية؟ وإن كان مهتمًا، فلماذا لم يعترض قط على أنَّ القنصلية العامة الأمريكية تقع فعلًا في القدس؟ ولماذا لم يعترض قط على أنَّ رئاسة الوزراء والكنيست والمحكمة العليا الإسرائيلية جميعها في القدس؟ وما سر اعتراض 'عباس' أو أي فلسطيني آخر رغم أنَّ السفارة الأميركية تقع في القدس الغربية وليست في أحد الأحياء العربية في القدس الشرقية؟ والحقيقة أنَّ 'عباس' ليس معترضًا على نقل السفارة؛ بل على وجود دولة إسرائيل، تلك الدولة التي وصفها مرارًا وتكرارًا بأنَّها مشروع استعماري فرضته القوى الغربية على العرب.
فلو كان 'عباس' مهتمًا حقًا بمسألة افتتاح سفارة الولايات المتحدة، هل كان سيُمضي تلك الأيام الطوال السابقة لحفل الافتتاح متنقلًا بين شيلي وفنزويلا وكوبا؟
أمَّا الزعم بأنَّ حركة 'حماس' تشعر بالقلق إزاء نقل السفارة الأمريكية، فليس سوى مزحة مريضة. إنَّ ما يحتاج إليه المرء حقًا هو أن يصغي بعناية شديدة لما تصرِّح به حركة 'حماس' بأنَّ كفاحها يهدف إلى "تحرير كل فلسطين، من البحر المتوسط إلى نهر الأردن". وتقول حركة 'حماس' إنَّ الاحتجاجات التي نظَّمتها كانت تهدف إلى تمكين الملايين من الفلسطينيين من دخول إسرائيل وتحويلها إلى دولة إسلامية ذات أقلية يهودية. ولا تهتم حركة 'حماس' على الإطلاق بموقع السفارة. إذ أنَّ حركة 'حماس' تريد "فلسطين" كاملة.
ويستخدم 'عباس' وحركة 'حماس' مسألة نقل سفارة الولايات المتحدة كذريعة لإدانة إسرائيل بارتكاب فرية جديدة، وذلك من خلال اتهامها بقتل المدنيين الأبرياء العزَّل - وهي تهمة أثبت زيفها ما اعترفت به الحركة لاحقًا بأنَّ معظم الضحايا كانوا من أعضاء الحركة. ومرة أخرى، وجد الفلسطينيون ذريعة لشن الحرب على إسرائيل واليهود، وهذه المرة، كانت الذريعة هي نقل السفارة.
إنَّهم يحاولون خلق انطباع خاطئ بأنَّ الصراع مع إسرائيل بدأ بصدور قرار الرئيس 'ترامب' بنقل السفارة - ويتركَّز الآن حول هذا القرار وتبعاته. فهل كان الفلسطينيون قبل ذلك يعترفون بحق إسرائيل في الوجود كوطن لليهود؟ ألم يشاركوا في قتل اليهود على نحو شبه يومي قبل صدور هذا القرار؟ ألم يكونوا دومًا من المحرضين والمشجعين على العنف ضد اليهود؟
ومن المؤسف أنَّ العديد من العاملين في وسائل الإعلام العالمية يساعدون الفلسطينيين على نشر زعمهم الزائف بأنَّ هذه الحلقة من مسلسل الصراع العربي الإسرائيلي تتعلق بالقرار الأمريكي بنقل السفارة دون غيره. والحقيقة أنَّ هذه الحلقة — وجميع حلقات هذا المسلسل البائس - من الصراع العربي الإسرائيلي تدور حول رفض بعض العرب لوجود إسرائيل، داخل أي حدود، في الشرق الأوسط.
'بسام الطويل' عربي مسلم يكتب من منطقة الشرق الأوسط.