في الفترة الأخيرة، كشف موقع "ذي ديلي واير" (The Daily Wire) أنّ صحيفة داخلية صادرة عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية احتوت على مقالة دعت الى "تغيير المصطلحات المتعلقة بمكافحة الإرهاب،" حيث "تجرح بعض العبارات الخاصة بتعريف الإرهاب الدولي...مشاعر المسلمين الأمريكان." وواحدة من العبارات التي يكون من المفترض أن "تثير مشاكل": "جهادي" (jihadist). وجاء مقترح بديل في الصحيفة من أجل الإشارة الى الجهاديين: ألا وهو مصطلح "الخوارج."[i]
إذا أراد شخص ما أن يجد مثالاً نمطياً على خطاب "ووك" ("woke") واللياقة السياسية، فيكون من الصعب عليه أن يعثر على مثال أوضح من ذلك. للأسف لا يخلق التغيير المقترح للمصطلحات إلا المزيد من العقبات أمام فهم دقيق للإرهاب المعاصر والأعمال المتمردة المتعلقة بجماعة الدولة الإسلامية (داعش) وتنظيم القاعدة.
بدايةً، فإنّ مصطلح "الخوارج" (الذي يمكن ترجمته بشكل أوسع على أنّ الخوارج هم "الخارجون") غير مفهوم على الفور عند عوام الناس أو من لا يعرفون الاستخدام التاريخي والحديث لهذا المصطلح في اللغة العربية والكلام الإسلامي. في هذا السياق، يذكرنا استخدام هذا المصطلح بما قامت به الحكومة البريطانية عندما تبنت رسمياً استخدام كلمة "داعش" وهي اسم عربي مختصر مهين يشير الى جماعة الدولة الإسلامية وأصبح معروفاً عند المتحدثين باللغة العربية لكن يخلو من معنى عند معظم المتحدثين باللغة الإنجليزية.
في الخطاب الإسلامي اليوم، يتم استخدام مصطلح "الخوارج" في كثير من الأحيان اشارةً الى من يُعتبرون "مغالين" في معتقداتهم. فيكون المصطلح على سبيل المثال إهانة يستخدمها تنظيم القاعدة ضد جماعة الدولة الإسلامية، أو يستخدمها السنيون ضد جماعة الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة. حتى إنّ جماعة الدولة الإسلامية تستخدم مصطلح "الخوارج" وصفاً للجماعات التي تعدها "غلاة"، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: الفصيل المعروف ب"جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد" والذي انفصل عن جماعة الدولة الإسلامية في منطقة غرب إفريقيا وما زال يقاتلها.
لذا، فإنّ المشاكل التاريخية والحديثة المتمثلة في مصطلح "الخوارج" تعني أنّ استخدامه في محاولة تجريد الجماعات مثل تنظيم القاعدة وجماعة الدولة الإسلامية من المشروعية لا يكون من المحتمل أن يكون مثمراً. والشيء الأسوأ من ذلك: يعرقل استخدامه الفهم الصحيح بين عوام الناس فيما يخص معتقدات هذه الجماعات، ويجعل الأمر يبدو كما لو فوّضت الحكومات غير المسلمة بالسلطة من أجل الحكم فيما يشكّل الطريق "الأوسط" الصحيح وفيمن يمثّلون المنحرفين المزعومين المغالين في معتقداتهم.
رغم كل ذلك، يثير هذا الحوار مسألة تعريف الجهادية (jihadism) ومصطلح "جهادي" المتعلق بها.[ii] ليس من المفيد أن نطبق مصطلحي الجهادية والجهادي على أي استخدام مصطلح "الجهاد" من قبل المسلمين، حيث يصر بعض المسلمين على أنّ "الجهاد الأكبر" يجب تعريفه بأنّه كفاح شخصي أو روحي، بعيداً عن فكرة حمل السلاح. يتكلم آخرون عن الجهاد (أي: "الجهاد الأصغر") بمعنى الكفاح المسلح.
يمكن أن يكون سبيل من أكثر السبل فائدةً الى النظر في هذه المسألة عدسة "التطرف" التي طوّرها الباحث جي أم بيرغير (JM Berger)، مستخدماً نظريات الهوية الاجتماعية، بما أنّ الناس يعرّفون أنفسهم في كثير من الأحيان من حيث المجموعات الداخلية (in-groups) والمجموعات الخارجية المماثلة (out-groups): مثلاً، مكون ديني ومن لا يشاركون المجموعة الداخلية في هويتها الدينية. قد تتعايش المجموعات الداخلية ومجموعاتها الخارجية المماثلة فقط أو ربما تتنافس من أجل كسب أتباع دون أن تتعادى بالضرورة. بالنسبة لبيرغير، فإنّ "التطرف" يقوم عندما تظن مجموعة داخلية ما أنّ بقاءها ونجاحها لا يمكن فصلهما عن العداء لمجموعة خارجية، وقد يتراوح هذا العداء من الإهانة والتمييز الى الإبادة الجماعية في أسوأ الحالات.
وبالنسبة للجماعات التي نعتبرها "جهادية" عادةً، فهناك صراع أبدي بين المؤمنين أو المسلمين (المجموعة الداخلية) والكفار أو غير المسلمين (المجموعة الخارجية). وهذا الصراع ديني بطبيعته. يتم تصوير الأمة الإسلامية بأنّها تتعرض لأزمة فورية ألا وهي الهوان والذل والقهر على أيدي الكفار. والحل لهذه الأزمة الفورية هي الجهاد (العمل العدائي العنيف) من أجل طرد "الغزاة" غير المسلمين والاطاحة بالكيانات "المرتدة" التي يكون من المفترض أنّها تركت الإسلام لأنّها لا تطبق الشريعة بشكل كامل وتتعاون مع غير المسلمين.
لكن هناك "أزمة" أوسع في النهاية ألا وهي وجود الكفار وامتلاكهم للسيادة أو القوة في أي بقعة من بقاع الأرض. لذلك يستمر الجهاد ضدهم حتى يُسلِموا أو يكونوا صاغرين كأهل الذمة من الدرجة الثانية (وهذا الخيار خاص باليهود والمسيحيين وبعض الطوائف غيرهم) أو يُقتلوا.
على سبيل المثال، نشرت جماعة الدولة الإسلامية في عدد 15 من مجلة "دابق" الإنجليزية التابعة لإعلامها الرسمي (وصدر هذا العدد من المجلة في عام 2016) مقالةً موجهة الى الغرب وبعنوان "لماذا نكرهكم ونقاتلكم." تبعاً لهذه المقالة، فإنّ السبب الأهم: "لأنّكم كفار." وتابعت المقالة قولها:
"كما أنّ كفركم هو السبب الأهم لكراهيتنا تجاهكم، فإنّ كفركم هو السبب الأهم لقتالنا إياكم، حيث أمِرنا بأن نقاتل الكفار حتى يخضعوا لسلطة الإسلام، وذلك إما عن طريق اعتناق الإسلام وإما عن طريق دفع الجزية (لمن يتوفر هذا الخيار) والعيش في حالة ذل تحت حكم المسلمين."
من ثم تذكر المقالة مظالم "الجرائم ضد المسلمين" مثل غارات القصف التي "تقتل وتشوه أهلنا عبر العالم" و"عملاء" الغرب "في أراضي المسلمين المغتصبة" والذين "يظلمون ويعذّبون ويحاربون من يدعو الى الحق،" وغزو الأراضي المسلمة. قد يكون طرد الوجود الغربي من الأراضي المسلمة والإطاحة ب"عملائهم" الأهداف الأكثر فوريةً، ولكن هذه الأهداف تشتق من أزمة أوسع متمثلة في وجود الكفار وما يشكلون من عقبة أمام قدرة جماعة الدولة الإسلامية على فرض سيادتها على كل العالم.
ونرى أنّ تنظيم القاعدة يقول بنفس نظرة العالم الأساسية. تدل مقابلة صادرة في أكتوبر 2023 بعنوان "تساؤلات وردود حول عملية طوفان الأقصى وتداعياتها" على فروقات بين تنظيم القاعدة وجماعة الدولة الإسلامية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: في حين أنّ تنظيم القاعدة أشاد بشكل مفرط بهجوم "طوفان الأقصى" الذي قادته حركة حماس على إسرائيل في تاريخ 7 أكتوبر 2023، لم تستطع جماعة الدولة الإسلامية تمجيد العملية لأنّها ترى (على النقيض من تنظيم القاعدة) أنّ حركة حماس بكل أشكالها طائفة "مرتدة" لأسباب مثل تحالف حماس مع إيران وعدم تطبيقها الكامل للشريعة.
ولكن نفس نظرة العالم الجهادية الأساسية برزت عندما سؤل القائد المتوفى لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية خالد باطرفي عن رأيه في ردود فعل حكام الأراضي المسلمة على الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة، فضلاً عن رسالته الى عوام المسلمين. وبالنسبة لباطرفي، فإنّ سياسات هؤلاء الحكام تشير الى فراغ كلماتهم التي تدين أعمال إسرائيل، فسأل الله أن يمنّ على المسلمين ب"خلافة" لاستبدال هؤلاء الحكام.
من ثم بيّن باطرفي أنّ الصراع مع "اليهود والصليبيين" هو "معركة دينية،" قائلاً إنّ لا أحد ينخدع فيظن أنّنا "نقاتل اليهود لأنّهم فقط محتلون في بلاد المسلمين، أو {نقاتل الأمريكان لأنّ} الأمريكان يحتلون بلاد المسلمين ويتسلطون علينا فقط،" وانما السبب المهم الآخر هو "لأنّهم كفروا بالله العظيم." وأوضح:
"فالنبي (صلى الله عليه وسلم) عندما جاء وبعث، قال: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له...وأمرت بأن اقاتل الناس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأنني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فان فعلوا ذلك، فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم...
فهذه الأحاديث تدل على أنّنا نقاتلهم قتالاً دينياً، قتالاً إما أن يسلموا وإما أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإنّنا نقاتلهم فيكون الدين كله لله. وهذا هو الوقت الذي ندفعهم فيه عن بلادنا وندفهم عن مقدساتنا. ثم نقاتلهم بعد ذلك قتال وجهاد الطلب. أمّا اليوم، فجهادنا ضد هؤلاء جهاد الدفع. ندفعهم عن ديننا وعن مقدساتنا وعن بلادنا وعن ثرواتنا. واليوم، أيها المسلمون، الأمة كلها محتلة، كلها يسيطر عليها الأعداء، إما الأعداء الخارجيون الذين يغزوننا في عقر ديارنا، وإما الأعداء الداخليون من هؤلاء الحكام المبدلين لشرع الله، والموالون للكفار، والذين يحاربون المسلمين. فيا عباد الله، أنظروا كيف هم يقاتلوننا ويحاربوننا حرباً دينية."
لذلك، على الرغم من أنّ الصراعات الكبيرة تقوم بين الجماعات الجهادية لدرجة أنّها تتقاتل في كثير من الأحيان في حروب داخلية لا تنتهي، إلا أنّ نظرة العالم الأساسية لا تزال هي نفسها.
فمن الممكن أن نعرّف الجهادية بشكل مختصر هكذا: "إنّ الجهادية هي نظرة العالم التي لا يمكن فيها فصل بقاء المسلمين ونجاحهم عن جهاد الكفار على شتى مللهم، حيث يكون الحل للأزمة الكبرى التي يشكلها الكفر هو الجهاد المستمر الذي ينبغي له أن يعيد توحيد بلاد المسلمين تحت خلافة واحدة ومن ثم يسعى الى فتح كل العالم من أجل الإسلام."
لا يحاول هذا التعريف أن يقول ما اذا شكلت نظرة العالم هذه التفسير الصحيح للإسلام، بل يلاحظ فقط المركزية الضرورية للجهاد المسلح في نظرة العالم تلك.
كما يؤدي تعريف الجهادية هكذا الى تقدير أوضح للفروقات بين الجماعات الإسلامية، حيث تكون نتيجة من النتائج الطبيعية لهذا التعريف عداء الجهادية للنظام العالمي المتمثل في الدول القومية.
لذلك، لا حاجة الى ترك مصطلحي الجهادية والجهادي لأسباب اللياقة السياسية أو الخوف من الإساءة الى المسلمين. عندما يتم تعريف هذين المصطلحين بشكل مناسب، فيكونان مفيدين في فهم تهديدات الإرهاب والتمرد التي يشكلها تنظيم القاعدة وجماعة الدولة الإسلامية والجماعات المشابهة- وذلك أكثر فائدةً بكثير من مصطلح الخوارج الذي ليس له معنى واضح على الفور عند عوام الناس وهو غير دقيق تاريخياً ويُعتبر جهداً مخادعاً للتعتيم على تهديد حقيقي جداً.
الدكتور أيمن جواد التميمي هو زميل "ميلستين" للكتابة (Milstein Writing Fellow) في منتدى الشرق الأوسط (Middle East Forum)، وشريك في المدارس الملكية للموسيقى. لقد أكمل في الفترة الأخيرة دكتوراه في جامعة سوانزي (Swansea University) حيث ركز على السرديات التاريخية في دعاية جماعة الدولة الإسلامية. تابعوه على موقعه وعلى منصة "إكس" (X): @ajaltamimi
ملاحظات
[i] تجدر الإشارة الى أنّ المصادر الإسلامية تقول إنّ "الخوارج" الأوائل عارضوا حكم علي بن أبي طالب الذي كان الخليفة الرابع الحاكم للأمة الإسلامية بعد وفاة محمد الذي أسس الدين الإسلامي. في الحقيقة، فإنّ تنظيم القاعدة وجماعة الدولة الإسلامية يعترفان بعلي كواحد من الخلفاء "الراشدين" الذين مثلوا نظام الحكم المثالي الذي يريدان أن يقيماه من جديد: ألا وهو كيان الخلافة الثيوقراطي الذي يوحّد الأمة الإسلامية عبر العالم.
بالإضافة الى ذلك، هناك عدة معتقدات منسوبة الى طوائف تاريخية معروفة بخارجية، مثل تكفير المسلمين على أساس ارتكاب الكبائر مثل الزنا وشرب الكحول، ويرفض تنظيم القاعدة وجماعة الدولة الإسلامية هذه المعتقدات.
[ii] على المستوى الأوسع، يُذكر أنّ مصطلح الجهاد، على الرغم من أنّه يتعلق بشكل أكثر شيوعاً بالإسلام، إلا أنّه جاء في الخطاب المسيحي العربي بشكل إيجابي، إشارة الى الكفاح الروحي والإرادة لتحمل الاضطهاد والموت في سبيل الإيمان.
على سبيل المثال، هناك كتاب طقوسي صادر عن كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك (وهي كنيسة ذاتية ضمن الكنيسة الكاثوليكية ومتمركزة في منطقة الشام وتستخدم اللغة العربية واللغة اليونانية كلغاتها الطقسية)، ويستخدم هذا الكتاب مصطلح الجهاد إشارة الى وفاة القديس إيسيذورس من جزيرة خيو (Isidore of Chios)، وتحيي الكنيسة ذكراه على أنّه استشهد اثناء اضطهاد المسيحيين من قبل الرومان في القرن الثالث الميلادي. فورد في هذا الكتاب الطقوسي:
"شهيدك يا رب، بجهاده نال أكليل الخلود. منك يا إلهنا. فإنّه أحرز قوتك. فقهر المضطهدين. وسحق تجبر الأبالسة الواهي، فبتضرعاته أيها المسيح الإله، خلص نفوسنا."
يشبه مثل هذا الكلام تصوير الشهادة الذي نجده في الكتابات المسيحية اللاتينية.