يتعرَّض أي فلسطيني يحاول إدخال كيس من الأسمنت أو أي مواد بناء أخرى إلى مخيَّم للاجئين إلى الاعتقال والاستجواب والمحاكمة العسكرية، ويُحكم عليه بغرامة. هذه الممارسة اللاإنسانية والظالمة هي المتبعة الآن في لبنان. (مصدر صورة أعمال البناء: 'آي-ستوك'/iStock) |
يتعرَّض أي فلسطيني يحاول إدخال كيس من الأسمنت أو أي مواد بناء أخرى إلى مخيَّم للاجئين الفلسطينيين بهدف بناء منزل إلى الاعتقال والاستجواب والمحاكمة العسكرية، ويُحكم عليه بغرامة.
هل يحدث هذا في قطاع غزة؟ كلا.هل يحدث إذن في الضفة الغربية؟ كلا.إنَّ هذه الممارسة اللاإنسانية والظالمة تُتَّبع في بلد عربي يعيش فيه أكثر من 500,000 فلسطيني: لبنان.
والأنكى من ذلك أنَّ هذا الحظر المفروض على مواد البناء لا يعاقب الفلسطينيين الأحياء فحسب، بل يعاقب الموتى أيضًا. إذ يقول الفلسطينيون إنَّ هذا الحظر لا يحول دون حصولهم على ما يكفي من أحجار البناء والأسمنت لبناء المنازل فحسب، بل حتى لبناء القبور.
وفي كثير من الأحيان، يتجاهل المجتمع الدولي ووسائل الإعلام الغربية الرئيسية الأوضاع المأساوية للفلسطينيين الذين يعيشون في لبنان. ويبدو أنَّ المجتمع الدولي لا يهتم سوى بالفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة - أي بالفلسطينيين الذين يمكن إلقاء اللائمة بشأن ما يعانونه من مظالم على إسرائيل.
ويعيش أغلب الفلسطينيين في لبنان في 12 مخيَّمًا للاجئين، حيث يعانون من الفقر والازدحام والعنف، بالإضافة إلى ما يعانونه من جرَّاء نظام الفصل العنصري والإجراءات التمييزية القائمة في لبنان ضدهم، والتي تحرمهم من حقوقهم الأساسية.
وتزعم السلطات اللبنانية أنَّ الحظر المفروض على دخول مواد البناء إلى مخيَّمات اللاجئين يهدف إلى أن يضمن للفلسطينيين المقيمين في لبنان "حق العودة" إلى قراهم وبلداتهم السابقة داخل إسرائيل. وتقول السلطات اللبنانية للفلسطينيين "نحن لا نريدكم أن تبنوا منازل جديدة في بلدنا: لأنَّ ذلك سيضرُّ بحقكم [المزعوم] في العودة إلى فلسطين!"
وتعرف السلطات اللبنانية تمام المعرفة أنَّ إسرائيل لن تسمح أبدًا بانتقال مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى العيش داخل إسرائيل في إطار "حق للعودة". فمن وجهة نظر إسرائيل، سيعني ذلك أنَّ اليهود سيصبحون أقليَّة في بلدهم، وعندئذ، ستصبح هناك ثلاث دول فلسطينية: غزة وإسرائيل والضفة الغربية.
غير أنَّ هذه التفاصيل الصغيرة لم تمنع لبنان وغيره من البلدان العربية التي تستضيف أجيالًا من اللاجئين الفلسطينيين من الاستمرار في الكذب عليهم وإعطائهم آمالًا كاذبة بأنَّهم سيعودون يومًا ما إلى ديار آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم داخل إسرائيل.
وحظر دخول مواد البناء للفلسطينيين في المخيَّمات في لبنان ليس سوى مثال واحد على التمييز الذي يواجهه الفلسطينيون في هذا البلد العربي على مدى العقود القليلة الماضية.
والفلسطينيون في لبنان ممنوعون أيضًا بموجب القانون من العمل في مهن معيَّنة، تشمل الطب والهندسة والتمريض والمحاسبة والصيدلة والتدريس. وبالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الفلسطينيون في لبنان أجانب، ومن ثمَّ يُحظر عليهم امتلاك العقارات أو بيعها أو توريثها.
وإذا أراد فلسطيني أن يجدد منزله داخل أحد المخيَّمات، يحتاج إلى الحصول على تصريح مسبق بذلك من سلطات الأمن اللبنانية، بسبب مخاوف الحكومة اللبنانية من أن تُستخدم المواد اللازمة للتجديد في أغرض عسكرية. وإذا تمكَّن من الحصول على التصريح، يفرض الجيش اللبناني إجراءات مشدَّدة، مثل عدِّ أكياس الأسمنت أو التحقُّق من كمية أحجار البناء التي يرغب في إدخالها إلى المخيَّم.
وإذا قُبض على أحد الفلسطينيين أثناء محاولته تهريب مواد بناء إلى أحد المخيَّمات، تحقق معه السلطات اللبنانية وتفرض عليه غرامة قدرها 100,000 ليرة لبنانية (66 دولارًا أمريكيًّا).
ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن المركز الفلسطيني للإعلام، فإنَّ حظر دخول مواد البناء إلى المخيَّمات ساري المفعول منذ 22 عامًا. ويقول التقرير إنَّ "هذا الإجراء غير إنساني". ووفقًا للتقرير، رُفع هذا الحظر مؤقتًا في عام 2004 لبضعة أشهر قبل أن يُعاد فرضه من جديد، ووُسع نطاق تطبيقه ليشمل مجتمعات فلسطينية أخرى في لبنان.
وبالإضافة إلى الأسمنت، يُحظر على الفلسطينيين أيضًا إدخال أنابيب المياه أو الأسلاك الكهربائية أو الألومنيوم أو الأبواب أو البلاط أو النوافذ أو ألواح الزجاج أو الطلاء إلى المخيَّمات.
وفي العامين الماضيين، بدأت السلطات اللبنانية في بناء جدار خرساني مزوَّد بأبراج مراقبة حول اثنين من المخيَّمات الفلسطينية: عين الحلوة والرشيدية. وقد زعمت السلطات اللبنانية أنَّها تبني هذا الجدار لأسباب أمنية، وإن كان الأرجح أنَّها تحاول منع توسُّع المخيَّمين. ويشير الفلسطينيون إلى هذه الجدران، التي حوَّلت المخيَّمين إلى ما يشبه الغيتو المغلق، باسم "جدران العار".
ودعا 'جمال خطاب'، أمين سر القوى الإسلامية الفلسطينية في مخيَّم عين الحلوة السلطات اللبنانية إلى رفع الحظر المفروض على المخيَّمات. وقال "لقد انهارت بعض المنازل، وأُصيب نساء وأطفال".
وقال 'محمد الشولي'، وهو ناشط حقوقي فلسطيني، إنَّ الحظر المفروض على دخول مواد البناء أصبح "كابوسًا" يعيشه جميع اللاجئين.
وفي الآونة الأخيرة، اضطر الفلسطينيون في مخيَّم عين الحلوة إلى انتزاع أحجار من مساكنهم لبناء مقبرة كي يتمكنوا من دفن 'خالد زعيتر'، أحد سكان المخيَّم المتوفين. وظلَّ جثمان 'زعيتر' في ثلاجة الموتى في المخيَّم لعدَّة أيام قبل أن يتمكَّن سكان المخيَّم من انتزاع ما يكفي من الأحجار من منازلهم لبناء مقبرة له.
وقال 'عبد الرحمن مقدح'، أحد القيادات الفلسطينية في لبنان: "لقد أصبح دفن أي ميت فلسطيني داخل مخيم عين الحلوة، نقطة مؤلمة تُدخل أقارب المتوفى في دوامة".
ومن غير المتوقَّع أن تحظى احتجاجات الفلسطينيين في لبنان بأي اهتمام من جانب المجتمع الدولي، بما في ذلك ما يُسمى بالمجموعات المؤيدة للفلسطينيين، والتي تنشط بوجه خاص في جامعات الولايات المتحدة وكندا، من بين أماكن أخرى.
إنَّ المجموعات "المؤيدة للفلسطينيين" حقًا هي التي لديها الاستعداد لرفع أصواتها ضد ما يعانيه الفلسطينيون من سوء معاملة على أيدي إخوانهم العرب. والمجموعات "المؤيدة للفلسطينيين" حقًا هي التي لديها الاستعداد للدفاع عن حقوق النساء والمثليين الذين يعيشون في ظل حكم حركة 'حماس' في قطاع غزة. والمجموعات "المؤيدة للفلسطينيين" حقًا هي التي لديها الاستعداد للمناداة بالديمقراطية وحرية التعبير للفلسطينيين الذين يعيشون في ظل نظامين قمعيين، السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة 'حماس' في قطاع غزة. والمجموعات "المؤيدة للفلسطينيين" حقًا هي التي لديها الاستعداد لإدانة لبنان لإجراءاته العنصرية والتمييزية ضد الفلسطينيين، الأحياء منهم والأموات.
لأنَّ الاختباء في حرم إحدى الجامعات وبث الكراهية ضد إسرائيل لا يجعل أي شخص في الحقيقة "مؤيدًا للفلسطينيين". بل إنَّه يجعل من ذلك الشخص كارهًا لإسرائيل. فهل ستصغي المجموعات "المؤيدة للفلسطينيين" لرسائل الاستغاثة التي يرسلها الشعب الذي تدَّعي تلك المجموعات تمثيله من لبنان؟ على الأرجح، ستكون إجابة هذا السؤال بالنفي. فالأرجح أنَّهم سيستمرون في تنفيذ أجندتهم المعادية لإسرائيل في الوقت الذي يواصل فيه الفلسطينيون في لبنان انتزاع أحجار منازلهم لكي يبنوا مقابر لأحبائهم.
'بسام الطويل' عربي مسلم يكتب من منطقة الشرق الأوسط.