وفقًا لتقرير "قائمة المراقبة العالمية لعام 2018"، يعاني المسيحيون في العراق - وهو ثامن أسوأ بلد في العالم يمكن أن يكون المرء فيه مسيحيًا - من "اضطهاد شديد" لا يعود مصدره إلى "المتطرفين" وحدهم. في الصورة: كنيسة تعرَّضت للحرق والتدمير في بلدة قراقوش ذات الأغلبية المسيحية في العراق. (مصدر الصورة: Chris McGrath/Getty Images) |
وكما قال أحد الزعماء المسيحيين العراقيين مؤخرًا: "إنَّ حدوث موجة أخرى من الاضطهاد سينذر بنهاية المسيحية بعد 2000 عام من وجودها" في العراق. وفي مقابلة أُجريت في وقت سابق من هذا الشهر، ناقش مطران الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية 'حبيب النوفلي' كيف أدَّى الاضطهاد العنيف على مدى أكثر من عقد من الزمان إلى إبادة الأقلية المسيحية في العراق تقريبًا. فمنذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، تراجع عدد المسيحيين في البلاد من 1.5 مليون نسمة إلى حوالي 250,000 نسمة، في انخفاض بنسبة 85% تقريبًا. وأضاف المطران أنَّه خلال تلك السنوات الخمس عشرة، اختُطف المسيحيون واستُعبدوا واغتُصبوا وذُبحوا، وبل وصُلبوا في بعض الأحيان؛ ودُمرت كنيسة أو دير كل 40 يومًا في المتوسط.
وفي حين يُفترض في كثير من الأحيان أنَّ تنظيم الدولة الإسلامية 'داعش' هو المسؤول عن ذلك الاضطهاد، إلا أنَّ أوضاع المسيحيين لم تشهد أي تحسُّن يُذكر بعد انسحاب مقاتلي ذلك التنظيم الإرهابي من العراق. وكما أشار المطران، لا يزال المسيحيون يعانون من "عنف منهجي" يهدف إلى "تدمير لغتهم، وتمزيق أسرهم، ودفعهم إلى مغادرة العراق".
ووفقًا لتقرير "قائمة المراقبة العالمية لعام 2018"، يعاني المسيحيون في العراق - وهو ثامن أسوأ بلد في العالم يمكن أن يكون المرء فيه مسيحيًا - من "اضطهاد شديد" لا يعود مصدره إلى "المتطرفين" وحدهم.
ويذكر التقرير أنَّه على الرغم من أنَّ "الجماعات الدينية العنيفة" (مثل تنظيم الدولة الإسلامية 'داعش') تُعدُّ مسؤولة "بدرجة كبيرة للغاية" عن ذلك الاضطهاد، فإنَّ هناك فئتين مجتمعيتين أخريين نادرًا ما يرتبط اسمهما باضطهاد المسيحيين في العراق، رغم أنَّهما مسؤولتين "بدرجة كبيرة للغاية" أيضًا عن ذلك الاضطهاد، ألا وهما: (1) "المسؤولون الحكوميون في جميع المستويات من المحلي إلى الوطني"؛ (2) "والزعماء غير المسيحيين في جميع المستويات من المحلي إلى الوطني". وهناك ثلاث فئات مجتمعية أخرى، هي (1) "زعماء الجمعات العرقية (الطوائف)"؛ (2) "والمواطنون العاديون (عامة الناس)، بما في ذلك مثيرو الشغب"؛ (3) "والأحزاب السياسية في جميع المستويات من المحلي إلى الوطني"، تُعدُّ مسؤولة "بدرجة كبيرة" عن اضطهاد المسيحيين في العراق. وبعبارة أخرى، فإنَّ الجميع تقريبًا ضالعون في ذلك الاضطهاد.
ويستطرد التقرير مفسرًا ذلك:
"إنَّ الجماعات الدينية العنيفة مثل تنظيم 'داعش' وغيره من الجماعات المتطرفة معروفة باستهدافها المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية في عمليات الاختطاف والقتل. ويُعدُّ الزعماء الدينيون المسلمون في جميع المستويات مصدرًا آخر للاضطهاد الذي يأخذ معظمه شكل خطاب ينشر الكراهية في المساجد. وتُفيد التقارير بأنَّ المسؤولين الحكوميين العراقيين في جميع المستويات يهددون المسيحيين و "يشجعونهم" على الهجرة. بل وتفيد التقارير أيضًا أنَّ هناك مواطنين عاديين في شمال البلاد يتساءلون علانية عن السبب في بقاء المسيحيين في العراق".
ويؤكد العديد من الزعماء المسيحيين في شتى المحافظات ما تشير إليه التقارير. ووفقًا لما ذكره 'جورج صليبا'، مطران الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، فإنَّ:
"ما يحدث في العراق أمر غير مفهوم، ولكنَّه ليس بأمر غريب على المسلمين، فهم لم يعاملوا المسيحيين معاملة حسنة قط؛ وطالما كان موقفهم من المسيحيين عدائيًّا ومسيئًا... فقد كنا نعيش مع المسلمين ونتعايش معهم، ولكنَّهم كشَّروا عن أنيابهم...[وليس لهم] الحقُّ في اقتحام بيوت المسيحيين وسرقتهم والاعتداء على شرفهم. إنَّ معظم المسلمين يفعلون ذلك. لقد كان العثمانيون يقتلوننا، وبعد ذلك، تفهَّمت الدول التي خلفت العثمانيين موقفنا، ولكنَّها دائما ما كانت تميِّز المسلمين. إنَّ الإسلام لم يتغيَّر قط".
وخلص 'دوغلاس البازي' - وهو كاهن أبرشية عراقي من أربيل لا يزال جسده يحمل ندوبًا من أثر التعذيب الذي تعرَّض له قبل 9 سنوات - إلى نفس الملاحظة:
"إنَّني فخور بأنِّي عراقي، إنَّني أحب بلادي. ولكنَّ بلادي ليست فخورة بانتمائي إليها. إنَّ ما يحدث لشعبي [المسيحيين] لا يمكن وصفه بأقلَّ من أنَّه إبادة جماعية. إنَّني أتوسل إليكم: لا تسموا ما يحدث بالصراع. إنَّها إبادة جماعية... عندما يعيش الإسلام بينكم، قد يبدو الوضع مقبولًا. ولكن عندما يعيش المرء بين المسلمين [كأقلية]، كل شيء يصبح مستحيلًا... استيقظوا! إنَّ هذا السرطان يقف ببابكم. إنَّهم سوف يدمرونكم. نحن المسيحيون في الشرق الأوسط الفئة الوحيدة التي رأت وجه الشر: الإسلام."
إنَّ الحكومة العراقية متواطئة - إن لم تشارك - في هذا الاضطهاد. وكما أوضح رجل مسيحي في رده على سؤال بشأن سبب عدم لجوء المسيحيين إلى الحكومة العراقية طلبًا للحماية:
"إنَّ الاتصال بالسلطات يجبرنا على تحديد هويتنا [كمسيحيين]، ونحن غير متأكدين ممَّا إذا كان بعض من يهددوننا لا يعملون في المكاتب الحكومية التي من المُفترض أن توفر الحماية لنا".
وعندما يُضطر المسيحيون بالفعل إلى الاتصال بالسلطات المحلية، يوبخهم رجال الشرطة في بعض الأحيان بتعليقات مثل "لا ينبغي أن يكون لكم وجود في العراق لأنَّه من أراضي المسلمين".
ولم تفعل الحكومة العراقية شيئًا غير ترسيخ هذه المشاعر المعادية للمسيحيين. فعلى سبيل المثال، سنَّت الحكومة في أواخر عام 2015 قانونًا يجبر الأطفال المسيحيين وغيرهم من الأطفال غير المسلمين على التحوُّل إلى الإسلام إذا اعتنق آباؤهم الإسلام، أو في حال زواج أمهاتهم المسيحيات من رجال مسلمين.
وتقدِّم المناهج الدراسية الحكومية المسيحيين من سكان البلاد الأصليين على أنَّهم "أجانب" غير مرغوب فيهم، على الرغم من أنَّ العراق كان بلدًا مسيحيًا لقرون عديدة قبل أن يغزوه المسلمون في القرن السابع الميلادي. وكما أوضح سياسي مسيحي في وزارة التربية العراقية: فإنَّ:
"كتب التاريخ تكاد تخلو من أي شيء عنَّا [أي عن المسيحيين]، والنزر اليسير الموجود خاطئ تمامًا. فلا تذكر المناهج أي شيء عن أنَّنا كنَّا في هذه البلاد قبل دخول الإسلام. وتقتصر على ذكر المسيحيين الغربيين فقط. إنَّ العديد من العراقيين يعتقدون أنَّنا هاجرنا إلى العراق من بلدان غربية. إنَّهم يظنُّون أنَّنا ضيوف في هذا البلد".
ويشير أحد التقارير إلى أنَّه "إذا قال الأطفال [المسيحيون] في المدارس إنَّهم يؤمنون بيسوع، يتعرَّضون للضرب والتوبيخ من معلميهم".
والمثال الأكثر دلالة هنا هو أنَّ الحكومة العراقية توظِّف رجال دين متشددين تكاد تعاليمهم لا تختلف عن تعاليم تنظيم 'داعش' وتمنحهم منصات لنشر آرائهم. فقد أوضح آية الله 'أحمد البغدادي' على سبيل المثال، وهو واحد من كبار فقهاء الشيعة في البلاد، خلال مقابلة تلفزيونية موقف غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الحكم الإسلامي:
"إذا كان كتابيًّا [أي من اليهود أو المسيحيين] تقول له أعطنى الجزية. إذا قال لا أعطيك الجزية، نقاتله. هذا إذا كان كتابيًّا. هنا [...] نخيِّره ثلاثة خيارات: إما أن تكون مسلمًا، إن قبل فلا نأخذ منه الجزية، إذا أصبح لا يصير مسلمًا، يبقى على مسيحيته، وهذا حقه، نقول له أعطنا الجزية. إذا رفض نقاتله. أما المشرك، فنخيره بين الإسلام والقتال [...]، فإذا كانوا مشركين، نسبي نساءهم، ونحطم كنائسهم، فليسمع العالم كله - هذا هو الإسلام [...] هذا كلام الله!".
ونظرًا لأنَّ المسلمين في العراق يُلقَّنون هذه الأقوال المعادية للمسيحيين منذ نعومة أظافرهم - في قاعات الدراسة في المدارس ثم في المساجد، ربما ينبغي ألَّا يُفاجأ أحد عندما ينقلب المسلمون على جيرانهم المسيحيين كلما سنحت لهم الفرصة.
وفي تسجيل فيديو، تروي أسرة مسيحية عراقية تعاني من الصدمة كيف قُتل أطفالها الصغار - بحرقهم أحياء "فقط لأنَّهم كانوا يرتدون صلبانًا". وحكت الأم كيف تعرَّضت أسرتها للهجوم على يد أعضاء مزعومين في تنظيم 'داعش'، ليسوا في حقيقة الأمر إلا جيرانها المسلمين، وكيف قتلوا أطفالها، وهم نفس الجيران الذين طالما أكلوا وضحكوا مع أسرتها، بل وحصلوا على خدمات تعليمية وطبية من أفرادها، ولكنَّهم انقلبوا عليها.
وعندما طُلب إلى لاجئين مسيحيين أن يحددوا بدقة هوية من هدَّد المسيحيين وأجبرهم على مغادرة الموصل، قال أحدهم:
"لقد تركنا الموصل لأنَّ تنظيم 'داعش' دخل المدينة. ورحَّب سكان الموصل [المسلمون السنِّيون] بمقاتلي التنظيم، وطردوا المسيحيين إلى خارج المدينة. لقد احتفل الناس بدخول تنظيم 'داعش' إلى المدينة وطردوا منها المسيحيين... لقد كان بين المرحبين بتنظيم 'داعش' جيراني، الذين عشت طيلة عمري بينهم... نعم، كانوا جيراني. لقد هدَّدنا جيراننا وغيرهم من الناس. وقالوا لنا: غادروا قبل أن يمسك بكم تنظيم 'داعش'. ماذا يعني ذلك؟ إلى أين نذهب؟ إنَّ المسيحيين لا يحظون بأي دعم في العراق. وكل من يدَّعى أنَّه يحمي المسيحيين في العراق كذَّاب. كذَّاب!".
إنَّ المسيحيين في العراق على وشك الاندثار، ولا يُعزى ذلك في المقام الأول إلى تنظيم 'داعش'، بل إلى أنَّ كل درجة في السلَّم الاجتماعي في المجتمع العراقي كانت ولا تزال تعمل من أجل إفنائهم.
وكما قال 'حبيب النوفلي'، مطران الكنيسة الكلدانية قرب نهاية مقابلة أُجريت معه مؤخرًا "إن لم ينطبق على ما يجري وصف الإبادة الجماعية، فعلامَ ينطبق إذن؟"
'ريموند إبراهيم'، مؤلف الكتاب الجديد "سيف الصليب وسيف الهلال: أربعة عشر قرنًا من الحروب بين الإسلام والغرب". (Sword and Scimitar, Fourteen Centuries of War between Islam and the West)، وهو زميل أقدم في معهد جيتستون، وزميل كرسي جوديث روزن فريدمان في منتدى الشرق الأوسط.