لفترة تجاوزت 1660 يومًا، يرزح مخيم للاجئين الفلسطينيين تحت نير الحصار. وقد قُتل حتى الآن المئات من سكان المخيم، في حين اضطر عشرات الآلاف إلى الفرار من منازلهم.
أما من بقوا في المخيم - ومعظمهم من كبار السن والنساء والأطفال - فيعيشون في ظروف صحية لا توصف، ويضطرون إلى شرب المياه الملوثة.
وقد توفي أكثر من 200 فلسطيني من سكان المخيم، الذي لم يُرفع عنه الحصار منذ عام 2013، بسبب نقص الطعام والأدوية. ولا يمكن أن تُوصف الأحوال في ذلك المخيم، بأي حال من الأحوال، بأقل من أنَّها مروِّعة.
فلماذا لم يسمع معظمنا عن ظروف "الحياة" البائسة التي يعاني منها سكان هذا المخيم؟ إنَّ السبب بسيط، لأنَّ المخيَّم المعني لا يقع في الضفة الغربية أو قطاع غزة.
فهذا المخيم المنكوب هو مخيم اليرموك الذي يقع على بعد خمسة كيلومترات من العاصمة السورية دمشق.
وكان أكثر من 100 ألف فلسطيني يعيشون في هذا المخيم الذي تبلغ مساحته 2.11 كيلومتر مربع قبل أن تشتعل نيران الحرب الأهلية في سوريا.
وبحلول نهاية عام 2014، كان عدد سكان المخيم قد تراجع إلى 13 ألف شخص فحسب.
ومنذ عام 2012، كان المخيم مسرحًا لمعارك ضارية بين أطراف شتى: قوات المعارضة السورية، والجيش السوري وحلفائه، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، وهي منظمة إرهابية فلسطينية موالية للنظام السوري يتزعمها 'أحمد جبريل'، وتنظيم الدولة الإسلامية ('داعش').
وقد فرض الجيش السوري الحصار على مخيم اليرموك منذ أكثر من 1660 يومًا. في الصورة: سكان مخيم اليرموك يصطفون في طابور للحصول على الإمدادات الغذائية، 31 كانون الثاني/يناير 2014. (مصدر الصورة: الأونروا) |
وفي عام 2015، نجح تنظيم 'داعش' في فرض سيطرته على أجزاء كبيرة من مخيم اليرموك، رغم الحصار الذي فرضته قوات الجيش السوري والجبهة الشعبية على المخيم.
ومنذ ذلك الحين، تحوَّلت حياة سكان المخيم من الفلسطينيين إلى جحيم.
ولا يمكن القول بأنَّ الأوضاع في المخيم كانت جيدة في السابق. فقد شهد المخيم أيامًا استخدمت فيها قوات الجيش السوري والجبهة الشعبية المدفعية الثقيلة في قصف المنازل والمدارس، الأمر الذي أسفر عن مقتل عشرات من السكان، منهم نساء وأطفال.
ويحاصر الجيش السوري والتنظيم الإرهابي الفلسطيني التابع له مخيم اليرموك من جميع الاتجاهات، ويمنعون دخول الطعام والأدوية إلى سكانه. وداخل جدران المخيم، يرتكب تنظيم 'داعش' الفظائع ضد السكان على نحو شبه يومي.
ففي الأسبوع الأخير فحسب، جرَّ إرهابيو 'داعش' رجلين فلسطينيين إلى ميدان عام في المخيم، وأعدموهما أمام جمع من السكان المذهولين. وكُشف لاحقًا عن أنَّ الضحيتين هما 'رامز عبد الله' و'بشار سعيد'. وقد تلقى 'عبد الله' رصاصة في الرأس، في حين ذُبح 'سعيد' على طريقة 'داعش' المفضَّلة.
وكان الرجلان قد أُدينا أمام "محكمة" تابعة لتنظيم 'داعش' بالتجسس لصالح الجبهة الشعبية وتنظيم 'أكناف بيت المقدس'، وهو تنظيم فلسطيني مناهض للنظام يعمل على قتال تنظيم 'داعش' في مخيم اليرموك.
ولا تُعدُّ هذه الإعدامات العلنية بالأمر الغريب في شوارع مخيم اليرموك.
ففي شباط/فبراير 2017، أعدم تنظيم 'داعش' رجلًا فلسطينيًا يُدعى 'محمد عطية'. وبعد شهر من ذلك، أعدم التنظيم أربعة فلسطينيين آخرين. وفي تموز/يوليو من العام نفسه، أعدم التنظيم مراهقًا فلسطينيًا يُدعى 'محمد عليان' بعد إدانته بتقديم المساعدة لمقاتلين جرحى تابعين لتنظيم مناوئ لتنظيم داعش.
وبعد ذلك بأيام قليلة، اعتقل إرهابيو 'داعش' في المخيم امرأة من السكان بعد أن رفضت الخضوع للتفتيش الذاتي في إحدى نقاط التفتيش. ويقول سكان المخيم إنَّهم يخشون أن تٌعدم المرأة التي لم يُكشف عن اسمها حتى الآن. وليس من المتوقَّع أن يكون مصيرها أفضل بكثير من مصير عشرات غيرها من سكان المخيم اعتقلهم تنظيم 'داعش' ولا يزالون في عداد المفقودين.
ويبدو أنَّ القدر ارتأى أنَّ ذلك لا يكفي، إذ وردت أيضًا أخبار بأنَّ إرهابيي 'داعش' يصادرون المواد الغذائية من المتاجر والمنازل في المخيم.
وعلاوة على ذلك، لا يزال تنظيم 'داعش' يمنع المرضى من مغادرة المخيم لتلقي العلاج الطبي، وفقًا لما ذكرته 'مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية'.
وقالت المجموعة إنَّ الأزمة الإنسانية في مخيم اليرموك قد بلغت ذروتها، حيث أدى نقص الطعام والأدوية إلى تفشي أمراض عديدة بين سكان المخيم.
وتُعدُّ المحنة التي يعيشها سكان مخيم اليرموك بمثابة نموذج مصغَّر للمأساة التي عاشها الفلسطينيون في سوريا منذ أن اندلعت نيران الحرب الأهلية في ذلك البلد.
وتشير تقارير 'مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية' إلى أنَّ قرابة 3645 فلسطينيًا قد قُتلوا منذ عام 2011. وهناك 463 امرأة من بين الضحايا. ولا يزال 1656 فلسطينيًا قابعين في السجون السورية المختلفة منذ بداية الحرب، بما في ذلك 105 امرأة.
أما داخل مخيم اليرموك نفسه، فقد توفي أكثر من 204 فلسطيني بسبب نقص الطعام والأدوية. ولفترة تجاوزت 1237 يومًا، لم تصل إمدادات المياه الجارية إلى المخيم. ولفترة تزيد على 1398 يومًا، لم تصل إمدادات المياه الجارية أيضًا إلى مخيم "درعا" للاجئين الفلسطينيين.
ومنذ بداية الحرب، فرَّ أكثر من 85 ألف فلسطيني من سوريا متجهين إلى أوروبا. وفرَّ 30 ألف آخرون طلبًا للأمان في لبنان، في حين اختار 17 ألفًا الاستقرار في الأردن و6 آلاف في مصر و8 آلاف في تركيا.
وكشف تقرير آخر أنَّ 11 فلسطينيًا لقوا حتفهم في سوريا في كانون الثاني/يناير 2018. وقد قُتل 10 منهم بالرصاص خلال الاشتباكات الدائرة بين الأطراف المتصارعة، في حين توفي آخر من جرَّاء التعذيب في سجن تابع للحكومة السورية.
فلماذا نحتاج إلى أن نواصل تذكير العالم بالمحنة التي يمرُّ بها الفلسطينيون في سوريا؟ لأنَّ المجتمع الدولي والمجموعات الداعمة للفلسطينيين في جميع أنحاء العالم تبدو غير مهتمة بالفظائع التي تُرتكب ضد الفلسطينيين في سوريا أو أي بلد عربي آخر، لأنَّ إسرائيل ليست هي التي ارتكبتها.
ولا يزال من الصعب فهم اللامبالاة التي تبديها قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله تجاه هذه الأحداث، إذ يبدو أنَّ ممثليها مشغولون بأمور أخرى أكثر أهمية.
وفي الوقت الذي يتعرَّض فيه أبناء الشعب الفلسطيني للقتل والتجويع والتهجير والحرمان من الرعاية الطبية في سوريا، يبدو أنَّ رئيس السلطة الفلسطينية 'محمود عباس' يهتم أكثر بإعلان الرئيس الأمريكي 'دونالد ترامب' مؤخرًا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ومن الواضح أنَّ افتعال الخلافات مع الإدارة الأمريكية قد أصبح الرياضة اليومية المفضلة لدى 'عباس' وكبار مسؤولي السلطة في رام الله. فلا يكاد يمرُّ يوم دون أن تصدر السلطة الفلسطينية تصريحًا تندِّد فيه بشدة بالرئيس الأمريكي 'ترامب' والسياسات التي تتَّبعها إدارته تجاه الفلسطينيين. ولكن عندما يتعلق الأمر بمعاناة الفلسطينيين في سوريا، تُصاب السلطة الفلسطينية في رام الله بالبكم.
وبكل بساطة، يتجاهل القادة الفلسطينيون في اجتماعاتهم المنتظمة في رام الله تلك المحنة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في البلدان العربية، ولا سيما سوريا. وبدلًا من ذلك، يخصِّص القادة الفلسطينيون جلَّ وقتهم لإصدار التصريحات المنددة بالمستوطنات الإسرائيلية وإدارة الرئيس الأمريكي 'ترامب'، كما لو كان الفلسطينيون لا يُقتلون يوميًا في بلد عربي شقيق.
ويبدو أنَّ الرئيس 'عباس' البالغ من العمر 82 عامًا قد حدَّد بوضوح أولياته في المرحلة الراهنة. فبدلًا من البحث عن سُبل لمساعدة أبناء شعبه في سوريا وقطاع غزة الذين يواجهون نقصًا حادًا في الوقود والأدوية، أنفق 'عباس' لتوه 50 مليون دولار لشراء طائرة رئاسية.
وكان من الممكن للرئيس الفلسطيني 'عباس' أن يستغل هذه الأموال في إنقاذ حياة الآلاف من الفلسطينيين المحاصرين في سوريا وداخل قطاع غزة.
غير أنَّ 'عباس' ليس مهتمًا بتلك الأمور على الإطلاق. ففي وجهة نظره، يتحمَّل العالم بأسره مسؤولية تلبية احتياجات الشعب الفلسطيني.
فهو يريد أن يستمر الجميع، عدا 'عباس' نفسه، في مواصلة تقديم العون المالي إلى الفلسطينيين. وفي رأي 'عباس'، فإنَّ الإدلاء بكلمة أمام البرلمان الأوروبي أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أهم كثيرًا وبوضوح من الفلسطينيين الذين يموتون يوميًا نتيجة لنفص الأدوية والغذاء. وفي ظل وجود هذا النوع من القيادات، ليس الفلسطينيون بحاجة إلى أن يكون لهم أعداء.
'خالد أبو طعمة' صحفي حائز على العديد من الجوائز، يكتب من أورشليم القدس.