لا يُعرب الرئيس الفرنسي 'إيمانويل ماكرون' (Emmanuel Macron) أبدا عن أسفه للضحايا الذين فقدوا أعينهم أو أيديهم من جرَّاء وحشية رجال الشرطة. بل طلب 'ماكرون' من البرلمان الفرنسي أن يسنَّ قانونا يكاد يمنع بالكامل ممارسة الحق في الاحتجاج و يلغي افتراض البراءة، ويسمح للشرطة باعتقال أي شخص في أي مكان، حتى دون سبب. وسنَّ البرلمان الفرنسي ذلك القانون بالفعل. (مصدر الصورة Kiyoshi Ota - Pool/Getty Images) |
باريس، شارع الشانزليزيه 14 تموز/يوليو، الاحتفال بيوم سقوط الباستيل: قبل برهة قصيرة من بداية العرض العسكري، أقبلت في الشارع سيارة رسمية تقلُّ الرئيس 'إيمانويل ماكرون' لتحية الجماهير. وكان وصول السيارة مصحوبا بهتافات "قدِّم استقالتك يا 'ماكرون'، وصيحات استهزاء وشتائم من آلاف الأشخاص الذين اصطفوا على طول الشارع.
وفي المرحلة الأخيرة من المظاهرة، أطلق بضعة عشرات من الأشخاص بالونات صفراء في سماء باريس ووزَّعوا منشورات تحمل عنوان "السترات الصفراء لم تمُت". وفرَّقت الشرطة المتظاهرين بسرعة وحزم. وبعد ذلك بدقائق، تجمَّع مئات من الفوضويين المنضمين إلى حركة معاداة الفاشية "أنتيفا"، ووضعوا حواجز في الشارع، وبدؤوا في نصب المتاريس وإشعال النيران وتحطيم واجهات عدَّة متاجر. وواجهت الشرطة صعوبات جمَّة في السيطرة على الوضع، ولكنَّها نجحت في استعادة الهدوء في الشارع في بدايات مساء ذلك اليوم، أي في غضون بضعة ساعات.
وبعد ساعات قليلة، تجمَّع آلاف الشباب العرب المقيمين في الضواحي بالقرب من قوس النصر. وكان من الواضح أنهم حضروا إلى مركز العاصمة بهدف "الاحتفال" بفوز الفريق الجزائري بطريقتهم الخاصة. ومرة أخرى، حُطمت واجهات عدَّة متاجر، وتعرَّض المزيد منها للنهب. ورفرفت أعلام الجزائر في كل مكان. وتعالت أصوات المتجمعين بهتافات مثل: "تحيا الجزائر"، و"فرنسا لنا"، و"الموت لفرنسا". وأزال المتجمعون اللافتات التي تحمل أسماء الشوارع ووضعوا في مكانها لافتات أخرى تحمل اسم عبد القادر، وهو زعيم ديني وعسكري جزائري حارب ضد الجيش الفرنسي أثناء غزو الجزائر واستعمارها. وركزت الشرطة جهودها حصريا في الحد من أعمال العنف آملة ألا تنتشر في المدينة.
وقرب منتصف الليل، خرج من قسم الشرطة ثلاثة من زعماء حركة "السترات الصفراء" وأخبروا مذيع إحدى القنوات التلفزيونية أنَّ الشرطة الفرنسية اعتقلتهم صباح ذلك اليوم وأبقتهم قيد الاحتجاز طوال اليوم. وذكر محاميهم أنهم لم يرتكبوا أي فعل خاطئ، وأن القبض عليهم كان "وقائيا". وأكَّد أن فرنسا سنَّت في شباط/فبراير 2019 قانونا يسمح للشرطة الفرنسية باعتقال أي شخص يُشتبه في أنه متجه للانضمام إلى مظاهرة دون أن تحتاج إلى أمر اعتقال صادر من قاض، ودون إتاحة أي فرصة للطعن في ذلك الإجراء.
وفي يوم الجمعة 19 تموز/يوليو، فاز الفريق الجزائري مرة أخرى في مباراته. وتجمَّع المزيد من الشباب العرب بالقرب من قوس النصر بهدف "الاحتفال" بذلك الفوز مرة أخرى. وكان الدمار الناتج عن ذلك الاحتفال أكثر حتى من نظيره الذي شهدته المدينة قبل ثمانية أيام. ونشرت الشرطة الفرنسية المزيد من رجالها في الشوارع، ولكنَّهم لم يفعلوا شيئا.
وفي 12 تموز/يوليو، وقبل يومين من الاحتفال بذكرى سقوط الباستيل، تجمع مئات من الأفارقة معلنين أنهم من المهاجرين غير الشرعيين، ودخلوا إلى البانثيون، مبنى مقبرة العظماء الذي يضم رفات أبطال كان لهم أدوار عظيمة في تاريخ فرنسا. وهناك، أعلن المهاجرون عن تأسيس حركة "السترات السوداء". وطالبوا "بتقنين أوضاع" جميع المهاجرين غير الشرعيين الموجودين على الأراضي الفرنسية وتوفير مساكن مجانية لهم. وظهرت قوات الشرطة في مسرح الأحداث، ولكنَّها لم تتدخل. وغادر معظم المتظاهرين المكان دون أحداث شغب. وقبضت الشرطة على عدد من المتظاهرين أهانوا بعضا من رجالها.
إن فرنسا اليوم تبدو وكأنها سفينة تبحر بلا هُدى. وتشهد تزايدا مستمرا لأحداث العنف وغياب القانون. وأصبح الشغب جزءا من الحياة اليومية في البلاد. وتُظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية الشعب الفرنسي يرفضون الرئيس 'ماكرون'. ويبدو أنهم يكرهون غروره ويميلون إلى عدم مسامحته. فهم مستاؤون من ازدراءه للفقراء؛ والطريقة التي سحق بها حركة "السترات الصفراء"، وعدم اهتمامه مطلقا بأبسط المطالب التي عبَّر عنها المتظاهرون مثل الحق في تنظيم استفتاءات للمواطنين مثل تلك التي تُنظَّم في سويسرا. ولم يعُد بمقدور الرئيس 'ماكرون' أن يذهب إلى أي مكان دون أن يخاطر بالتعرُّض لمظاهر الغضب الشعبي.
ويبدو أن حركة "السترات الصفراء" قد توقفت عن تنظيم المظاهرات واستسلمت للأمر الواقع: فقد تعرَّضت أعداد كبيرة للغاية من أعضائها للتشوُّه أو الإصابة. غير أن جذوة الغضب لا تزال مشتعلة في صدورهم. ويبدو أنها تنتظر الفرصة لكي تنفجر مرة أخرى.
وعلى الرغم من أن قوات الشرطة الفرنسية تُظهر قدرا كبيرا من الوحشية في التعامل مع المتظاهرين السلميين، تكاد تكون عاجزة عن منع مجموعات مثل "أنتيفا" من إشعال نيران العنف. ولذلك، يتجمع في الوقت الراهن الفوضيون من أنصار "أنتيفا" في نهاية كل مظاهرة. ويبدو أن الشرطة الفرنسية تُظهر قدرا كبيرا من الحرص في تعاملها مع الشباب العرب والمهاجرين غير الشرعيين. فهناك من أصدر أوامره بذلك للشرطة. وتعرف الشرطة الفرنسية جيدا أن الشباب العرب قادرون على إثارة أحداث عنف واسعة النطاق. فمنذ ثلاثة أشهر في غرينوبل، كانت الشرطة الفرنسية تطارد شبابا عرب يركبون دراجة نارية مسروقة بعد اتهامهم بالسرقة. وأثناء محاولتهم الهرب، تعرَّضوا لحادث سير. وكان ذلك الحادث إشارة البدء لفترة من الفوضى العارمة في المدينة لمدة خمسة أيام.
ويبدو الرئيس 'ماكرون' دائما كرئيس مستبد عندما يواجه مظاهرات الفقراء الساخطين. فلا يُعرب أبدا عن أسفه للضحايا الذين فقدوا أعينهم أو أيديهم أو أُصيبوا بأضرار دماغية يستحيل علاجها من جرَّاء الوحشية المفرطة التي تعامل معهم بها رجال الشرطة. وبدلا من ذلك، طلب 'ماكرون' من البرلمان الفرنسي أن يسنَّ قانونا يكاد يمنع بالكامل ممارسة الحق في الاحتجاج و يلغي افتراض البراءة، ويسمح للشرطة باعتقال أي شخص في أي مكان، حتى دون سبب. وسنَّ البرلمان الفرنسي ذلك القانون بالفعل.
وفي حزيران/يونيو، سنَّ البرلمان الفرنسي قانونا آخر يفرض عقوبات شديدة على أي شخص يُدان بتصريحات تتضمن "خطاب كراهية"، سواء كانت تلك التصريحات شفوية أو كتابية. ويتَّسم هذا القانون الجديد بقدر كبير من الغموض إلى درجة دفعت الفقيه القانوني الأمريكي 'جوناثان ترلي' (Jonathan Turley) إلى التعليق عليه. فكتب 'ترلي' قائلا "لقد أصبحت فرنسا الآن من بين أكبر التهديدات العالمية التي تواجهها حرية التعبير".
غير أن 'ماكرون' لا يبدو مستبدا عند تعامله مع الفوضويين الميالين إلى العنف. بل يمكن القول بأنه يبدو ضعيفا في مواجهة الشباب العرب والمهاجرين غير الشرعيين.
وهو يعلم جيدا ما قاله وزير الداخلية السابق 'جيرار كولومب' (Gérard Collomb) لدى استقالته من الحكومة في تشرين الثاني/نوفمبر 2018:
"إن المجتمعات المحلية في فرنسا بدأت تدخل في صراعات ضد بعضها البعض على نحو متزايد، وأصبح تتَّسم بعنف شديد...إننا نعيش اليوم إلى جوار بعضنا البعض، غير أنني أخشى أننا سنعيش غدا في مواجهة بعضنا البعض".
ويعرف 'ماكرون' جيدا أن الرئيس الفرنسي السابق 'فرانسوا هولاند' (François Hollande) قال، بعد انتهاء فترة حكمه كرئيس للبلاد: "إن فرنسا على وشك الانقسام".
ويعرف 'ماكرون' جيدا أن الانقسام قد وقع بالفعل في فرنسا. إذ أن أغلب العرب والأفارقة يعيشون في مناطق محظورة ومنفصلة عن بقية المناطق السكانية، ولا يقبلون على نحو متزايد بسكنى آخرين من غير العرب أو المنحدرين من أصول غير أفريقية في تلك المناطق. ولا يعرِّف سكان هذه المناطق أنفسهم على أنهم فرنسيون سوى في سياق شعارات مثل أن فرنسا لهم. وتشير التقارير إلى أن معظمهم يرفض فرنسا والثقافة الغربية رفضا باتا. وهناك عدد متزايد منهم يعتبر أن هويته الدينية أهم بكثير من جنسيته كمواطن فرنسي؛ في حين انضم العديد منهم إلى الجماعات المتطرفة ويبدو أنهم على استعداد للقتال.
ولكن لا يبدو أن 'ماكرون' يريد القتال في تلك المعركة، بل اختار محاولة إرضائهم. فهو يسعى بإصرار إلى تنفيذ خططه بإضفاء الطابع المؤسسي على الإسلام في فرنسا. ومنذ ثلاثة أشهر، أنشأت الحكومة الفرنسية رابطة الشؤون الإسلامية في فرنسا. وسيتولى أحد فروع الرابطة معالجة التوسُّع الثقافي الإسلامي في فرنسا، وكذلك مسؤولية "مكافحة العنصرية ضد المسلمين". وسيتولى فرع آخر مسؤولية البرامج الموضوعة لتدريب الأئمة وبناء المساجد. وفي هذا الخريف، سوف يُنشأ "مجلس أئمة فرنسا". ومن بين كبار قادة الرابطة (أو من كانوا من كبار قادتها مؤخرا) أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وهي حركة أدرجتها مصر والبحرين وسوريا وروسيا والسعودية والإمارات العربية في قوائم المنظمات الإرهابية، غير أن فرنسا لم تفعل ذلك.
ويعرف 'ماكرون' جيدا ما تشير إليه البيانات الديموغرافية. وتُظهر هذه البيانات أن تعداد المسلمين في فرنسا سيتزايد إلى حد كبير في الأعوام المقبلة. (كتب عالم الاقتصاد 'شارل غاف' (Charles Gave) مؤخرا أن المسلمين سيصبحون الأغلبية في فرنسا بحلول عام 2057). ولا يخفى على 'ماكرون' أنه في المستقبل القريب لن يُصبح بإمكان أي مرشح أن يفوز بالانتخابات الرئاسية الفرنسية دون أن يضمن أصوات المسلمين، وهذا هو سبب تصرفاته الحالية.
ويبدو أن 'ماكرون' يعلم أيضا أن حالة الاستياء التي أدت إلى ظهور حركة "السترات الصفراء" لا تزال موجودة. ولكن من الواضح أنه يرى القمع حلا كافيا لهذه المسألة، وأنه كافٍ لمنع اندلاع أي مظاهرات أخرى، ومن ثمَّ، لا يفعل أي شيئ لمعالجة أسباب ذلك الاستياء.
فقد وُلدت حركة "السترات الصفراء" من رحم ثورة ضد الضرائب الباهظة المفروضة على الوقود، والإجراءات القاسية التي اتَّخذتها الحكومة ضد السيارات وقائديها. وتشمل هذه الإجراءات تخفيض الحد الأقصى للسرعة -- إلى 80 كم/ساعة على أغلب الطرق السريعة -- ووضع المزيد من كاميرات مراقبة السرعة؛ وزيادة حادة في الغرامات المرورية؛ وفرض ضوابط معقدة وباهظة على تجديد رخص السيارات سنويا. وزادت مؤخرا الضرائب التي تفرضها الحكومة الفرنسية على الوقود، وحاليا تُعتبر الأعلى في أوروبا (70% من السعر المدفوع في المحطات). وهناك إجراءات أخرى اتَّخذتها الحكومة ضد استخدام السيارات لا تزال سارية، وتسبب العديد من المتاعب للفقراء. فقد اضطر الفقراء إلى الهروب من الضواحي بسبب وصول أعداد كبيرة من السكان الجدد الذين يفتقرون إلى التسامح، وأصبحوا الآن مضطرين إلى العيش في مناطق أبعد - والانتقال بسياراتهم مسافات أبعد - حتى يتمكنوا من الوصول إلى أماكن عملهم.
ولم يتَّخذ 'ماكرون' أي قرارات تهدف إلى معالجة الوضع الاقتصادي المتردي في فرنسا. فعند انتخابه رئيسا للبلاد، كانت الضرائب والرسوم الاجتماعية تمثل 50% تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد. وكان الإنفاق الحكومي يمثل 57% من الناتج المحلي الإجمالي (بما يمثل أعلى نسبة في البلدان المتقدمة النمو). وكانت نسبة الدين الوطني إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ تقريبا 100%.
ولاتزال الضرائب والرسوم الاجتماعية والإنفاق الحكومي عند نفس المستوى الذي كانت عليه عندما تولى 'ماكرون' زمام السلطة. ولا تزال نسبة الدين الوطني إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 100% وآخذة في التزايد. وفي الوقت الحالي، لا يولِّد الاقتصاد الفرنسي المزيد من الوظائف. ولا تزال معدلات الفقر مرتفعة للغاية: إذ يكسب 14% من السكان أقل من 855 يورو (950 دولارا أمريكيا) في الشهر.
ولا يُبدي 'ماكرون' أي اهتمام كذلك بالكارثة الثقافية التي تواجه البلاد. فالنظام التعليمي الفرنسي ينهار. وهناك عدد متزايد من الطلاب من خريجي المدارس الثانوية غير قادرين على كتابة جملة واحدة خالية من الأخطاء، ويصعب على القارئ فهم أي شيئ يكتبونه. وبدأت الديانة المسيحية في الاختفاء من فرنسا. ولا يعرِّف أغلب الفرنسيين من غير المسلمين أنفسه على أنهم مسيحيون. وصرَّحت الحكومة الفرنسية رسميا بأن الحريق الذي دمَّر كاتدرائية نوتردام لم يكن سوى "حادث"، ولكن الكاتدرائية لم تكُن سوى مبنى مسيحي واحد من بين العديد من المباني المشابهة التي تعرَّضت للتدمير في فرنسا في الآونة الأخيرة. ففي كل أسبوع، تتعرَّض الكنائس للتخريب - دون أن يهتم لذلك عموم الجمهور الفرنسي. وفي النصف الأول من عام 2019 فحسب، احترقت 22 كنيسة.
ولا يبدو أن الرئيس 'ماكرون' والحكومة الفرنسية يعتبران أن أمورا مثل خطر اشتعال أعمال الشغب، أو حالة الاستياء الشعبي القائمة، أو اختفاء الديانة المسيحية، أو الوضع الاقتصادي المأساوي الذي تشهده البلاد، أو عملية الأسلمة الجارية في فرنسا وتبعاتها، تستحق أن تكون من بين اهتماماتهما الرئيسية، بل يركزان جهدهما على مسألة تغيُّر المناخ. وبالرغم من أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في فرنسا ضئيلة للغاية (لا تمثل سوى أقل من 1% من الإجمالي العالمي)، يبدو أن 'ماكرون' يعتبر أن مكافحة "تغيُّر المناخ الناشئ عن النشاط البشري" أولويته المطلقة.
وفي الآونة الأخيرة، دعا عدد من أنصار 'ماكرون' من أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية فتاة سويدية تُدعى 'غريتا ثونبرغ' (Greta Thunberg)، تبلغ من العمر 16 عاما - ومع ذلك، تُعدُّ زعيمة"الحرب ضد تغيُّر المناخ في أوروبا" - إلى زيارة الجمعية الوطنية الفرنسية. وألقت 'ثونبرغ' خطابا أكدت فيه للمستمعين أنهم سيشهدون في القريب العاجل دخول الكوكب في مرحلة من "التدمير الذي لا رجعة فيه". وأضافت قائلة إن الزعماء السياسيين "ليسوا ناضجين بما يكفي"، ويحتاجون إلى تلقي الدروس من الأطفال. وصفق لها بحرارة أنصار 'ماكرون' من أعضاء الجمعية الوطنية. ومُنحت'ثونبرغ' جائزة الحرية التي استُحدثت مؤخرا وستُمنح في كل عام للأشخاص الذين "يقاتلون من أجل القيَم التي حارب من أجلها أولئك الذين أُنزلوا إلى شواطئ نورماندي في عام 1944 من أجل تحرير أوروبا". وربما يكون من المعقول أن نفترض أنه لم يكُن هناك شخص واحد بين من أُنزلوا إلى شواطئ نورماندي في عام 1944 يعتقد أنه يقاتل في تلك الحرب من أجل إنقاذ المناخ. غير أنه من الواضح أن مثل هذه التفاصيل الصغيرة أكبر بكثير من أن يفهمها 'ماكرون' وأنصاره من أعضاء المجلس الوطني.
ويبدو أيضا أن اليهود خارج نطاق اهتمامات 'ماكرون' وحكومته - وقد يكون السبب في ذلك تصاعد مشاعر معاداة السامية في البلاد، بالإضافة إلى القلق السائد من قرارات المحاكم التي تبدو وكأنها متأثرة إلى درجة كبيرة بروح من الاستسلام أمام التيارات الإسلامية العنيفة، وهو ما جعل اليهود يواصلون مغادرة البلاد.
فعلى سبيل المثال، وجدت محكمة فرنسية أنها غير قادرة على إدانة 'كوبيلي تراوري' (Kobili Traore)، الرجل الذي قتل 'سارة هاليمي' (Sarah Halimi) في عام 2017 وهو يقرأ آيات من القرآن ويصرخ قائلا إن اليهود شياطين. ويبدو أن 'تراوري' كان قد تعاطى الحشيش قبل أن يرتكب جريمته، وهو ما دفع القضاة إلى الحكم بأنه كان في حالة لم يكُن فيها مسؤولا عن أفعاله. وسوف يُفرج عن 'تراوري' من السجن قريبا؛ ولكنَّ السؤال هو، ما الذي سيحدث عندما يدخن 'تراوري' الحشيش مرة أخرى؟
وبعد بضعة أسابيع على اغتيال 'هاليمي'، تعرَّض ثلاثة أشخاص من عائلة يهودية للاعتداء والتعذيب والاحتجاز في منزلهم كرهائن على أيدي مجموعة من خمسة رجال كانوا يقولون عبارات مثل "إن لدى اليهود الكثير من المال" و"يجب أن يدفع اليهود". وأُلقي القبض على الرجال الخمسة، وكانوا جميعا من المسلمين. غير أن القاضي الذي وجَّه إليهم الاتهام أكد أن ما قاموا به لا يُعتبر فعلا معاديا للسامية.
وفي 25 تموز/يوليو 2019، عندما كان فريق 'مكابي حيفا' الإسرائيلي يلعب مباراة في ستراسبورغ، قررت الحكومة الفرنسية تقييد عدد المشجعين الإسرائيليين الذين سيُسمح لهم بحضور المباراة بحيث لا يتجاوز 600 مشجع فقط لا غير. وكان ألف إسرائيلي على الأقل قد اشتروا تذاكر طيران إلى فرنسا لحضور المباراة. ومنعت الحكومة الفرنسية أيضا رفع الأعلام الإسرائيلية في الملعب أو في أي مكان في المدينة. ومع ذلك، وتحت شعار "حرية التعبير"، سمحت وزارة الداخلية الفرنسية بتنظيم مظاهرات معادية لإسرائيل أمام الملعب، ورفرفت الأعلام الفلسطينية واللافتات التي تحمل عبارات مثل "الموت لإسرائيل" في أجواء المكان. وفي اليوم السابق للمباراة، تعرَّض مطعم قريب من الملاعب كان عدد من الإسرائيليين يتناولون طعامهم فيه للهجوم. وقالت 'أليزا بن نون' (Aliza Ben Nun)، سفيرة إسرائيل إلى فرنسا، "لقد وافقت السلطات على تنظيم المظاهرات المعادية لإسرائيل تحت مسمى حرية التعبير، غير أنها رفضت السماح لمشجعي 'مكابي حيفا' برفع الأعلام الإسرائيلية. إن هذا أمر غير مقبول". وقبل أيام قليلة، وصلت إلى إسرائيل طائرة محمَّلة بيهود فرنسيين مهاجرين إليها. وقريبا، سينضم إليهم المزيد من اليهود الفرنسيين. إن رحيل اليهود الفرنسيين إلى إسرائيل أمر ينطوي على تضحية: إذ تستغل بعض شركات السمسرة العقارية رغبة العديد من العائلات اليهودية في مغادرة البلاد وتشتري ممتلكاتهم وتبيعها بأسعار أقل كثيرا من قيمتها في السوق.
وسوف يظل 'ماكرون' رئيسا للبلاد حتى أيار/مايو 2022. وقد انضم العديد من زعماء أحزاب شمال الوسط (مثل الحزب الاشتراكي) ويمين الوسط (مثل الحزب الجمهوري) إلى حزب "الجمهورية إلى الأمام" الذي أسَّسه 'ماكرون' منذ عامين. وبعد ذلك، انهار الحزب الاشتراكي والحزب الجمهوري تماما في الانتخابات. ومن المتوقع أن يكون المنافس الرئيسي للرئيس 'ماكرون' في انتخابات عام 2022 هو نفس منافسه في انتخابات عام 2017، أي 'مارين لو بين' (Marine Le Pen)، زعيمة حزب التجمع الوطني ذي الميول الشعبوية.
وبالرغم من أن شعبية 'ماكرون' محدودة للغاية، ويُعد مكروها على نطاق واسع، من الأرجح أنه سيستخدم نفس الشعارات الانتخابية التي استخدمها في عام 2017: أنه آخر معقل للأمل أمام "الفوضى" و"الفاشية". وهناك فرصة كبيرة بأن يفوز 'ماكرون' بالانتخابات مرة أخرى. وبإمكان أي شخص يقرأ البرنامج السياسي الخاص بحزب التجمع الوطني أن يرى بوضوح أن 'لو بين' ليست من أنصار الفاشية. وبإمكان أي شخص ينظر إلى فرنسا اليوم أن يتساءل ما إذا كانت فرنسا قد بدأت تغرق بالفعل في بحر من الفوضى.
إن هذا الوضع المأساوي في فرنسا ليس مختلفا بقدر كبير عما تشهده العديد من البلدان الأوروبية. فمنذ بضعة أسابيع، نشر كاردينال من أصول أفريقية يُدعى 'روبرت سارا' (Robert Sarah) كتابا بعنوان "يأتي المساء، ويبدأ الضوء في الزوال". وكتب قائلا "يكمن في لب مرحلة الانهيار التي يمرُّ بها الغرب أزمة ثقافية وأزمة هوية. إن الغرب لم يعد يعرف هويته، لأنه لا يريد أن يعرف ما الذي شكَّله، وما هي مكوِّناته، وماذا كان حاله في الماضي، وماذا أصبح حاله الآن. (...) إن حالة خنق النفس هذه لا تفضي، بطبيعة الحال، سوى إلى حالة من التدهور تفتح الباب أمام إقامة حضارات همجية".
وهذا هو ما يحدث بالضبط في فرنسا - وفي أوروبا.
د. 'غي ميليير' (Guy Millière) أستاذ في جامعة باريس، وقد ألَّف 27 كتابًا عن فرنسا وأوروبا.